بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة إن دنوت منهم دانوا لك و إن نأيت عنهم تعززوا بك حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك و يسترهبه بجندك و في ذلك شاغل لهم عنك و أمان لأحداثهم بعدك و إن كان لا أمان للدهر و لا ثقة بالأيام. قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا و علي حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه و محضته النصيحة فيه و الملك أعلى عينا و أنفذ روية و أفضل رأيا و أبعد همة فيما استعان بي عليه و كلفني بتبيينه و المشورة عليه فيه لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم و عواقب الصنع و توطيد الملك و تنفيس الأجل و درك الأمل ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر. و السلام الذي لا انقضاء له و لا انتهاء و لا غاية و لا فناء فليكن على الملك. قالوا فعمل الملك برأيه و استخلف على ايرانشهر أبناء الملوك و العظماء من أهل فارس فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده و المملكة موزعة بينهم إلى أن جاء أردشير بن بابك فانتزع الملك منهم(18/48)
ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لَا تُشْرِفُ نَفسُهُ عَلَى طَمَعٍ وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 59عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَ أَصَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ أَفْسِحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيحُ عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا
تمحكه الخصوم تجعله ما حكا أي لجوجا محك الرجل أي لج و ماحك زيد عمرا أي لاجه. قوله و لا يتمادى في الزلة أي إن زل رجع و أناب و الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. قوله و لا يحصر من الفي ء هو المعنى الأول بعينه و الفي ء الرجوع إلا أن هاهنا زيادة و هو أ لا يحصر أي لا يعيا في المنطق لأن من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع و أصابه كالفهاهة و العي خجلا. قوله و لا تشرف نفسه أي لا تشفق و الإشراف الإشفاق و الخوف و أنشد الليث
و من مضر الحمراء إسراف أنفس علينا و حياها علينا تمضرا(18/49)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 60و قال عروة بن أذينةلقد علمت و ما الإشراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
و المعنى و لا تشفق نفسه و تخاف من فوت المنافع و المرافق. ثم قال و لا يكتفى بأدنى فهم أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم بل يستقصي و يبحث أشد البحث. قوله و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم أي تضجرا و هذه الخصلة من محاسن ما شرطه ع فإن القلق و الضجر و التبرم قبيح و أقبح ما يكون من القاضي. قوله و أصرمهم أي أقطعهم و أمضاهم و ازدهاه كذا أي استخفه و الإطراء المدح و الإغراء التحريض. ثم أمره أن يتطلع على أحكامه و أقضيته و أن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه و يتعفف به عن المرافق و الرشوات و أن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به و تقبيحهم ذكره عنده. ثم قال إن هذا الدين قد كان أسيرا هذه إشارة إلى قضاة عثمان و حكامه و أنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده بل بالهوى لطلب الدنيا. و أما أصحابنا فيقولون رحم الله عثمان فإنه كان ضعيفا و استولى عليه أهله قطعوا الأمور دونه فإثمهم عليهم و عثمان بري ء منهم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : فصل في القضاة و ما يلزمهم و ذكر بعض نوادرهم
قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان
و جاء في الحديث المرفوع أيضا من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مجلسه و مقعده(18/50)
دخل ابن شهاب على الوليد أو سليمان فقال له يا ابن شهاب ما حديث يرويه أهل الشام قال ما هو يا أمير المؤمنين قال إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات و لم يكتب عليه السيئات فقال كذبوا يا أمير المؤمنين أيما أقرب إلى الله نبي أم خليفة قال بل نبي قال فإنه تعالى يقول لنبيه داود يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا. و قال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة و أراد أن يستقضيه و الله ما أحسن القضاء فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن و إن كنت كاذبا فقد فسقت و الله لا يحل أن تستقضي الفاسق. و قال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض أن يكره اللائمة و يحب المحمدة و يخاف العزل. و قال محارب بن زياد للأعمش وليت القضاء فبكى أهلي فلما عزلت بكى أهلي فما أدري مم ذلك قال لأنك وليت القضاء و أنت تكرهه و تجزع منه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 62فبكى أهلك لجزعك و عزلت عنه فكرهت العزل و جزعفبكى أهلك لجزعك قال صدقت. أتي ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح نخل فشهدوا و كانوا عدولا فامتحنهم فقال كم في القراح من نخلة قالوا لا نعلم فرد شهادتهم فقال له أحدهم أنت أيها القاضي تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة فأعلمنا كم فيه من أسطوانة فسكت و أجازهم. خرج شريك و هو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران و قد أقبلت تريد الحج و قد كان استقضي و هو كاره فأتي شاهي فأقام بها ثلاثا فلم تواف فخف زاده و ما كان معه فجعل يبله بالماء و يأكله بالملح فقال العلاء بن المنهال الغنوي(18/51)
فإن كان الذي قد قلت حقا بأن قد أكرهوك على القضاءفما لك موضعا في كل يوم تلقى من يحج من النساءمقيما في قرى شاهي ثلاثا بلا زاد سوى كسر و ماء
و تقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث و كانت جميلة و أخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير و هو قاض بالكوفة فقضى لها على أخيها فقال هذيل الأشجعي
أتاه وليد بالشهود يسوقهم على ما ادعى من صامت المال و الخول و جاءت إليه كلثم و كلامها شفاء من الداء المخامر و الخبل فأدلى وليد عند ذاك بحقه و كان وليد ذا مراء و ذا جدل فدلهت القبطي حتى قضى لها بغير قضاء الله في محكم الط شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 63فلو كان من في القصر يعلم علمه لما استعمل القبطي فينا على عمل له حين يقضي للنساء تخاوص و كان و ما فيه التخاوص و الحول إذا ذات دل كلمته لحاجة فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل و برق عينيه و لاك لسانه يرى كل شي ء ما خلا وصلهو كان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي و الله لربما جاءتني السعلة و النحنحة و أنا في المتوضإ فأردهما لما شاع من شعره. كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أما بعد فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك و نفسي فيه خيرا الزم خمس خصال يسلم لك دينك و تأخذ بأفضل حظك إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة و ادن الضعيف حتى يشتد قلبه و ينبسط لسانه و تعهد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه و رجع إلى أهله و إنما ضيع حقه من لم يرفق به و آس بين الخصوم في لحظك و لفظك و عليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء. و كتب عمر إلى شريح لا تسارر و لا تضارر و لا تبع و لا تبتع في مجلس القضاء و لا تقض و أنت غضبان و لا شديد الجوع و لا مشغول القلب. شهد رجل عند سوار القاضي فقال ما صناعتك فقال مؤدب قال أنا لا أجيز شهادتك قال و لم قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا قال و أنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا قال إنهم أكرهوني قال نعم(18/52)