الباقين و المرتضى
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 187اعتقد أن ذلك مثل الماهيات المركبة نحو العشرة إذا عدم منها واحد زال مسمى العشرة و ليس الأمر كذلك يبين ذلك أنه لو قال بعض الملوك لمائة إنسان أنتم جيشي ثم قال لواحد منهم إذا مت فأعط كل واحد من جيشي درهما من خزانتي فقد جعلتك أما عليهم لم يكن له أن يأخذ لنفسه درهما و يقول أنا من جملة الجماعة الذين أطلق عليهم لفظة الجيش. و منها قول قاضي القضاة هذه القضية تدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه و أما قول المرتضى فقد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين لا إلى القائم بالأمر بعده فلم نجد في كلامه في هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك و لا أعلم على ما ذا أحال و لو كان قد بين على ما زعم أن الخطاب متوجه إلى الحاضرين لكان الإشكال قائما لأنه يقال له إذا كان الإمام المنصوص عليه حاضرا عنده فلم وجه الخطاب إلى الحاضرين أ لا ترى أنه لا يجوز أن يقول الملك للرعية اقضوا بين هذين الشخصين و القاضي حاضر عنده إلا إذا كان قد عزله عن القضاء في تلك الواقعة عن الرعية. فأما قول المرتضى هذا ينقلب عليكم فليس ينقلب و إنما ينقلب لو كان يريد تنفيذ الجيش بعد موته فقط و لا يريده و هو حي فكان يجي ء ما قاله المرتضى ليفذ القائم بالأمر بعدي جيش أسامة فأما إذا كان يريد نفوذ الجيش من حين ما أمر بنفوذه فقد سقط القلب لأن الخليفة حينئذ لم يكن قد تعين لأن الاختيار ما وقع بعد و على مذهب المرتضى الإمام متعين حاضر عنده نصب عينه فافترق الوصفان. و منها قول قاضي القضاة إن مخالفة أمره ص في النفوذ مع الجيش أو في إنفاذ الجيش لا يكون معصية و بين ذلك من وجوه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 188أحدها أن أمره ع بذلك لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة و ألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ و إن أعقب ضررا في الدين فأما قول ارتضى الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة و لا يجوز(18/168)
أن يجعل الأمر المطلق فقول جيد إذا اعترض به على الوجه الذي أورده قاضي القضاة فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر فإنه يندفع كلام المرتضى و ذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلي عند كثير من أصحابنا على ما هو مذكور في أصول الفقه فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص عموم قوله انفذوا بعث أسامة لمصلحة غلبت على ظنه في عدم نفوذه نفسه و لمفسدة غلبت على نفسه في نفوذه نفسه مع البعث. و ثانيها أنه ع كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته فأما قول المرتضى إن للدين تعلقا قويا بأمثال ذلك و إنها ليست من الأمور الدنياوية المحضة نحو أكله و شربه و نومه فإنه يعود على الإسلام بفتوحه عز و قوة و علو كلمة فيقال له و إذا أكل اللحم و قوي مزاجه بذلك و نام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض و الإعياء اقتضى ذلك أيضا عز الإسلام و قوته فقل إن ذلك أيضا عن وحي. ثم إن الذي يقتضيه فتوحه و غزواته و حروبه من العز و علو الكلمة لا ينافي كون تلك الغزوات و الحروب باجتهاده لأنه لا منافاة بين اجتهاده و بين عز الدين و علو كلمته بحروبه و إن الذي ينافي اجتهاده بالرأي هو مثل فرائض الصلوات و مقادير الزكوات و مناسك الحج و نحو ذلك من الأحكام التي تشعر بأنها متلقاة من محض الوحي و ليس للرأي و الاجتهاد فيها مدخل و قد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله(18/169)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 189لو جاز أن تكون السرايا و الحروب عن اجتهاده لجاز أن تكون الأحكام كلها عن اجتهاده و أيضا فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب و آراءه التي يدبرها بها و يرجع ع إليهم في كثير منها بعد أن قد رأى غيره و أما الأحكام فلم يكن يراجع ها أصلا فكيف يحمل أحد البابين على الآخر. فأما قوله لو كانت عن اجتهاد لوجب أن يحرم مخالفته فيها و هو حي لا فرق بين الحالين فلقائل أن يقول القياس يقتضي ما ذكرت إلا أنه وقع الإجماع على أنه لو كان في الأحكام أو في الحروب و الجهاد ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته و العدول عن مذهبه و هو حي لم يختلف أحد من المسلمين في ذلك و أجازوا مخالفته بعد وفاته بتقدير أن يكون ما صار إليه عن اجتهاد و الإجماع حجة. فأما قول قاضي القضاة لأن اجتهاده و هو حي أولى من اجتهاد غيره فليس يكاد يظهر لأن اجتهاده و هو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره و يغلب على ظني أنهم فرقوا بين حالتي الحياة و الموت فإن في مخالفته و هو حي نوعا من أذى له و أذاه محرم لقوله تعالى وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ و الأذى بعد الموت لا يكون فافترق الحالان. و ثالثها أنه لو كان الإمام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته فكذلك إذا كان بالاختيار و هذا قد منع منه المرتضى و قال إنه لا يجوز للمنصوص عليه ذلك و لا أن يولي من عزله رسول الله ص و لا أن يعزل من ولاه رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 190و رابعها أنه ع ترك حرب معاوية في بعض الحالات لم يوجب ذلك أن يكون عاصيا فكذلك أبو بكر في ترك النفوذ في جيش أسامة. فأما قول المرتضى إن عليا ع كان مأمورا بحرب معاوية مع التمكن و وجود الأنصار فإذا عدما لم يكن مأمورا بحربه فلقائل أن يقول و أبو بكر كان مأمورا بالنفوذ في جيش أسامة مع التمكن و وجود الأنصار و قد عدم التمكن لما استخلف فإنه قد تحمل أعباء الإمامة و تعذر عليه(18/170)
الخروج عن المدينة التي هي دار الإمامة فلم يكن مأمورا و الحال هذه بالنفوذ في جيش أسامة. فإن قلت الإشكال عليكم إنما هو من قبل الاستخلاف كيف جاز لأبي بكر أن يتأخر عن المسير و كيف جاز له أن يرجع إلى المدينة و هو مأمور بالمسير و هلا نفذ لوجهه و لم يرجع و إن بلغه موت رسول الله ص. قلت لعل أسامة أذن له فهو مأمور بطاعته و لأنه رأى أسامة و قد عاد باللواء فعاد هو لأنه لم يكن يمكنه أن يسير إلى الروم وحده و أيضا فإن أصحابنا قالوا إن ولاية أسامة بطلت بموت النبي ص و عاد الأمر إلى رأي من ينصب للأمر قالوا لأن تصرف أسامة إنما كان من جهة النبي ص ثم زال تصرف النبي ص بموته فوجب أن يزول تصرف أسامة لأن تصرفه تبع لتصرف الرسول ص قالوا و ذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت الموكل قالوا و يفارق الوصي لأن ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصي فهو كعهد الإمام إلى غيره لا يثبت إلا بعد موت الإمام ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل مسألة و هي الحاكم هل ينعزل بموت الإمام أم لا قال قوم من أصحابنا لا ينعزل و بنوه على أن التولي من غير جهة الإمام يجوز فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين أجمعين لا عن الإمام(18/171)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 191و إن وقف تصرفه على اختياره و صار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحدا يحكم بينهم ثم يموت من رضي بذلك فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه و قال قوم من أصحابنا ينعزل و إن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة الإمام و لا يق به غيره و إذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته لم تبق تبعة على أبي بكر في الرجوع من بعض الطريق إلى المدينة. و خامسها أن أمير المؤمنين ولى أبا موسى الحكم و ولى رسول الله ص خالد بن الوليد السرية إلى الغميصاء و هذا الكلام إنما ذكره قاضي القضاة تتمة لقوله إن أمره ع بنفوذ بعث أسامة كان مشروطا بالمصلحة قال كما أن توليته ع أبا موسى كانت مشروطة باتباع القرآن و كما أن تولية رسول الله ص خالد بن الوليد كانت مشروطة بأن يعمل بما أوصاه به فخالفا و لم يعملا الحق فإذا كانت هذه الأوامر مشروطة فكذلك أمره جيش أسامة بالنفوذ كان مشروطا بالمصلحة و ألا يعرض ما يقتضي رجوع الجيش أو بعضه إلى المدينة و قد سبق القول في كون الأمر مشروطا. و سادسها أن أبا بكر كان محتاجا إلى مقام عمر عنده ليعاضده و يقوم في تمهيد أمر الإمامة ما لا يقوم به غيره فكان ذلك أصلح في باب الدين من مسيره مع الجيش فجاز أن يحبسه عنده لذلك و هذا الوجه مختص بمن قال إن أبا بكر لم يكن في الجيش و إيضاح عذره في حبس عمر عن النفوذ مع الجيش. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 192فأما قول المرتضى فإن ذلك غير جائز لأن مخالفة النص حرام فقد قلنا إن هذا مبني على مسألة تخصيص العمومات الواردة فالقرآن بالقياس. و أما قوله أي حاجة كانت لأبي بكر إلى عمر بعد وقوع البيعة و لم يكن هناك تنازع و لا اختلاف فعجيب و هل كان لو لا مقام عمر و حضوره في تلك المقامات يتم لأبي بكر أمر أو ينتظم له حال و لو لا عمر لما بايع علي و لا الزبير و لا أكثر الأنصار و الأمر في هذا أظهر من كل ظاهر. و سابعها أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش(18/172)