هذا الأمر في و لا إلي و إن مفارقته لتسرني لو لا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به و متى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل جر ذلك علينا ما لا قبل لنا به و أما أمير المؤمنين ع فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخولها فيها و إنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه قلة فكر فيه و علما بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها فأين هذا من استقالة بيعة قد تقدمت و استقرت. قلت أما قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم فقد صدق عند كثير من أصحابنا لأن خيرهم علي بن أبي طالب ع و من لا يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري و الله إنه ليعلم أنه خيرهم و لكن المؤمن يهضم نفسه و لم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها و أما قول المرتضى عنه أنه قال فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبى فالمشهور في الرواية فإن لي شيطانا يعتريني قال المفسرون أراد بالشيطان الغضب و سماه شيطانا على طريق الاستعارة و كذا ذكره شيخنا أبو الحسين في الغرر قال معاوية لإنسان غضب في حضرته فتكلم بما لا يتكلم بمثله في حضرة الخلفاء اربع على ظلعك أيها الإنسان فإنما الغضب شيطان و أنا لم نقل إلا خيرا. و قد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب التاريخ الكبير خطبتي أبي بكر عقيب بيعته بالسقيفة و نحن نذكرهما نقلا من كتابه أما الخطبة الأولى فهي(18/138)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 159أما بعد أيها الناس فإني وليتكم و لست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني لأن الصدق أمانة و الكذب خيانة الضعيف منكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه و القوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلضربهم الله بالذل و لا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله و رسوله فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله و أما الخطبة الثانية فهي أيها الناس إنما أنا مثلكم و إني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله ص يطيقه إن الله اصطفى محمدا ص على العالمين و عصمه من الآفات و إنما أنا متبع و لست بمتبوع فإن استقمت فاتبعوني و إن زغت فقوموني و إن رسول الله ص قبض و ليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها ألا و إن لي شيطانا يعتريني فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم ألا و إنكم تغدون و تروحون في أجل قد غيب عنكم علمه فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا و أنتم في عمل صالح فافعلوا و لن تستطيعوا ذلك إلا بالله فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال فإن قوما نسوا آجالهم و جعلوا أعمالهم لغيرهم فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم الجد الجد الوحا الوحا فإن وراءكم طالبا حثيثا أجل مره سريع احذروا الموت و اعتبروا بالآباء و الأبناء و الإخوان و لا تغبطوا الأحياء إلا بما يغبط به الأموات. إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه فأريدوا وجه الله بأعمالكم و اعلموا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 160أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فلطاعة أتيتموها و حظ ظفرتم به و ضرائب أديتموها و سلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم و حاجتكم فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم و تفكروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس و أين هم اليوم أين جبارون أين الذين كان لهم ذكر القتال و(18/139)
الغلبة في مواطن الحرب قد تضعضع بهم الدهر و صاروا رميما قد تركت عليهم القالات الخبيثات و إنما الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و أين الملوك الذين أثاروا الأرض و عمروها قد بعدوا بسيئ ذكرهم و بقي ذكرهم و صاروا كلا شي ء ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات و قطع عنهم الشهوات و مضوا و الأعمال أعمالهم و الدنيا دنيا غيرهم و بقينا خلفا من بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا و إن اغتررنا كنا مثلهم أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم صاروا ترابا و صار ما فرطوا فيه حسرة عليهمأين الذين بنوا المدائن و حصنوها بالحوائط و جعلوا فيها العجائب و تركوها لمن خلفهم فتلك مساكنهم خاوية و هم في ظلم القبور هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا أين من تعرفون من آبائكم و إخوانكم قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه و أقاموا للشقوة و للسعادة إلا إن الله لا شريك له ليس بينه و بين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا و لا يصرف عنه به شرا إلا بطاعته و اتباع أمره و اعلموا أنكم عباد مدينون و أن ما عنده لا يدرك إلا بتقواه و عبادته ألا و إنه لا خير بخير بعده النار و لا شر بشر بعد الجنة. فهذه خطبتا أبي بكر يوم السقيفة و اليوم الذي يليه إنما قال إن لي شيطانا يعتريني و أراد بالشيطان الغضب و لم يرد أن له شيطانا من مردة الجن يعتريه إذا(18/140)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 161غضب فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله إن لي شيطانا يعتريني عند غضبي تحريف لا محالة و لو كان له شيطان من الجن يعتاده و ينوبه لكان في عداد المصروعين من المجانين و ما ادعى أحد على أبي بكر هذا لا من أوليائه و لا من أعدائه و إن ذكرنا خطبته على طولها و المراد منها كلمة واحدة لما فيها من الفصاحة و الموعظة على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب ما كان ذاهبا هذا المذهب و سالكا هذا السبيل. فأما قول المرتضى فهذه صفة من ليس بمعصوم فالأمر كذلك و العصمة عندنا ليست شرطا في الإمامة و لو لم يدل على عدم اشتراطها إلا أنه قال على المنبر بحضور الصحابة هذا القول و أقروه على الإمامة لكفى في عدم كون العصمة شرطا لأنه قد حصل الإجماع على عدم اشتراط ذلك إذ لو كان شرطا لأنكر منكر إمامته كما لو قال إني لا أصبر عن شرب الخمر و عن الزنا. فأما قوله هذه صفة طائش لا يملك نفسه فلعمري إن أبا بكر كان حديدا و قد ذكره عمر بذلك و ذكره غيره من الصحابة بالحدة و السرعة و لكن لا بحيث أن تبطل به أهليته للإمامة لأن الذي يبطل الإمامة من ذلك و ما يخرج الإنسان عن العقل و أما ما هو دون ذلك فلا و ليس قوله فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم محمول على ظاهره و إنما أراد به المبالغة في وصف القوة الغضبية عنده و إلا فما سمعنا و لا نقل ناقل من الشيعة و لا من غير الشيعة أن أبا بكر في أيام رسول الله ص و لا في الجاهلية و لا في أيام خلافته احتد على إنسان فقام إليه فضربه بيده و مزق شعره. فأما ما حكاه قاضي القضاة عن الشيخ أبي علي من تشبيه هذه اللفظة بما ورد في القرآن فهو على تقدير أن يكون أبو بكر عنى الشيطان حقيقة و ما اعترض به المرتضى ثانية عليه غير لازم لأن الله تعالى قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ و تعقب ذلك قبولهما شرح نهج البغة ج : 17 ص : 162وسوسته و أكلهما من الشجرة فكيف يقول المرتضى ليس(18/141)
قول أبي بكر بمنزلة من وسوس له الشيطان فلم يطعه و كذلك قوله تعالى في قصة موسى لما قتل القبطي هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ و كذلك قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها و قوله أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ و ما ذهب إليه المرتضى من التأويلات مبني على مذهبه في العصمة الكلية و هو مذهب يحتاج في نصرته إلى تكلف شديد و تعسف عظيم في تأويل الآيات على أنه إذا سلم أن الشيطان ألقى في تلاوة الرسول ص ما ليس من القرآن حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول فقد نقض دلالة التنفير المقتضية عنده في العصمة لأنه لا تنفير عنده أبلغ من تمكين الله الشيطان أن يخلط كلامه بكلامه و رسوله يؤديه إلى المكلفين حتى يعتقد السامعون كلهم أن الكلامين كلام واحد. و أما قوله إن آدم كان مندوبا إلى ألا يأكل من الشجرة لا محرم عليه أكلها و لفظة عصى إنما المراد بها خالف المندوب و لفظه غوى إنما المراد خاب من حيث لم يستحق الثواب على اعتماد ما ندب إليه فقول يدفعه ظاهر الآية لأن الصيغة صيغة النهي و هي قوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و النهي عند المرتضى يقتضي التحريم لا محالة و ليس الأمر الذي قد يراد به الندب و قد يراد به الوجوب. و أما قول شيخنا أبي علي إن كلام أبي بكر خرج مخرج الإشفاق و الحذر من المعصية عند الغضب فجيد. و اعتراض المرتضى عليه بأنه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم لأن هذه عادة العرب يعبرون عن الأمر بما هو منه بسبب و سبيل كقولهم لا تدن من الأسد فيأكلك فليس أنهم قطعوا على الأكل عند الدنو و إنما المراد الحذر و الخوف و التوقع للأكل عند الدنو. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 163و أما الكلام في قوله أقيلوني فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه لأنه إنما أرافي اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة التي وقعت في اليوم الأول ليعلم وليه من عدوه منهم و(18/142)