قال ما يخطر لي ببال أن العرب تعدل بالأمر بعد وفاة محمد ص عن بني هاشم ثم من بني هاشم عني لأنه كان المتيقن بحكم الحال الحاضرة و هذا الكلام يدل على بطلان دعوى الإمامية النص و خصوصا الجلي. قال فما راعني إلا انثيال الناس تقول للشي ء يفجؤك بغتة ما راعني إلا كذاو الروع بالفتح الفزع كأنه يقول ما أفزعني شي ء بعد ذلك السكون الذي كان عندي و تلك الثقة التي اطمأننت إليها إلا وقوع ما وقع من انثيال الناس أي انصبابهم من كل وجه كما ينثاب التراب على أبي بكر و هكذا لفظ الكتاب الذي كتبه للأشتر و إنما الناس يكتبونه الآن إلى فان تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون في أول الشقشقية أما و الله لقد تقمصها فلان و اللفظ أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة. قوله فأمسكت يدي أي امتنعت عن بيعته حتى رأيت راجعة الناس يعني أهل الردة كمسيلمة و سجاح و طليحة بن خويلد و مانعي الزكاة و إن كان مانعو الزكاة قد اختلف في أنهم أهل ردة أم لا. و محق الدين إبطاله. و زهق خرج و زال تنهنه سكن و أصله الكف تقول نهنهت السبع فتنهنه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 153أي كف عن حركته و إقدامه فكان الدين كان متحركا مضطربا فسكن و كف عن ذلك الاضطراب. روى أبو جعفر محمد بن جريرلطبري في التاريخ الكبير أن رسول الله ص لما مات اجتمعت أسد و غطفان و طي ء على طليحة بن خويلد إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث فاجتمعت أسد بسميراء و غطفان بجنوب طيبة و طي ء في حدود أرضهم و اجتمعت ثعلبة بن أسد و من يليهم من قيس بالأبرق من الربذة وأشب إليهم ناس من بني كنانة و لم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين أقامت إحداهما بالأبرق و سارت الأخرى إلى ذي القصة و بعثوا وفودا إلى أبي بكر يسألونه أن يقارهم على إقامة الصلاة و منع الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه و رجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل المدينة فأطمعوهم فيها و علم أبو(18/133)
بكر و المسلمون بذلك و قال لهم أبو بكر أيها المسلمون إن الأرض كافرة و قد رأى وفدهم منكم قلة و إنكم لا تدرون أ ليلا تؤتون أم نهارا و أدناهم منكم على بريد و قد كان القوم يأملون أن نقبل منهم و نوادعهم و قد أبينا عليهم و نبذنا إليهم فأعدوا و استعدوا فخرج علي ع بنفسه و كان على نقب من أنقاب المدينة و خرج الزبير و طلحة و عبد الله بن مسعود و غيرهم فكانوا على الأنقاب الثلاثة فلم يلبثوا إلا قليلا حتى طرق القوم المدينة غارة مع الليل و خلفوا بعضهم بذي حسى
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 154ليكونوا ردءا لهم فوافوا الأنقاب و عليها المسلمون فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم ففعلوا و خرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح فانتشر العدو بين أيديهم و اتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغواا حسى فخرج عليهم الكمين بأنحاء قد نفخوها و جعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحي منها في طوله فنفرت إبل المسلمين و هم عليها و لا تنفر الإبل من شي ء نفارها من الأنحاء فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة و لم يصرع منهم أحد لم يصب فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون ثم خرجوا على تعبئة فما طلع الفجر إلا و هم و القوم على صعيد واحد فلم يسمعوا للمسلمين حسا و لا همسا حتى وضعوا فيهم السيف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم فما ذر قرن الشمس إلا و قد ولوا الأدبار و غلبوهم على عامة ظهرهم و رجعوا إلى المدينة ظافرين. قلت هذا هو الحديث الذي أشار ع إلى أنه نهض فيه أيام أبي بكر و كأنه جواب عن قول قائل إنه عمل لأبي بكر و جاهد بين يدي أبي بكر فبين ع عذره في ذلك و قال إنه لم يكن كما ظنه القائل و لكنه من باب دفع الضرر عن النفس و الدين فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن
ذكر ما طعن به الشيعة في إمامة أبي بكر و الجواب عنها(18/134)
و ينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام أمير المؤمنين ع أن نذكر ما أورده قاضي القضاة في المغني من المطاعن التي طعن بها فيه و جواب قاضي القضاة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 155عنها و اعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة و نذكر ما عندنا في ذلك ثم نذكر مطاعن أى لم يذكرها قاضي القضاة.
الطعن الأول
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فدك و قد سبق القول فيه و مما طعن به عليه قولهم كيف يصلح للإمامة من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه و من يحذر الناس نفسه و من يقول أقيلوني بعد دخوله في الإمامة مع أنه لا يحل للإمام أن يقول أقيلوني البيعة. أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول الله في آدم و حواء فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ و قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ و قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يوجب النقص في الأنبياء و إذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه و إنما أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية و يحذر منها و يخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه و ذلك منه على طريقة الزجر لنفسه عن المعاصي و قد روي عن أمير المؤمنين ع أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقا من المعصية و كان يولي ذلك عقيلا فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر فأما ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف و إن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالي لأمر يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة و إنما يضرون بذلك أنفسهم و كأنه نبه بذلك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 156على أنه غير مكره لهم و أنه قد خلاهم و ما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه و قد روي أن أمير المؤمنين ع أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله و المراد بذلك أنه تركه و ما يختار. اعترض المرتضى ر الله عنه فقال أما قول أبي(18/135)
بكر وليتكم و لست بخيركم فإن استقمت فاتبعوني و إن اعوججت فقوموني فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم و لا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية و قد بينا أن الإمام لا بد أن يكون معصوما موفقا مسددا و الوجه الآخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه و لا يضبط غضبه و من هو في نهاية الطيش و الحدة و الخرق و العجلة و لا خلاف أن الإمام يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف غير حاصل عليها و ليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلها لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب و أن عادته بذلك جارية و ليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان و لا يطيعه و يزين له القبيح فلا يأتيه و ليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب بل هو زيادة في التكليف و وجه يتضاعف معه الثواب و قوله تعالى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قيل معناه في تلاوته و قيل في فكرته على سبيل الخاطر و أي الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبي ص و لا نقص و إنما العار و النقص على من يطيع الشيطان و يتبع ما يدعو إليه و ليس لأحد أن يقول هذا إن سلم لكم في جميع الآيات لم يسلم في قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ لأنه قد خبر عن تأثير غوايته و وسوسته بما كان منهما من الفعل و ذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية أن آدم و حواء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة و ترك التناول منها و لم يكن ذلك عليهما واجبا لازما(18/136)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 157لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجرة فتركا مندوبا إليه و حرما بذلك أنفسهما الثواب و سماه إزلالا لأنه حط لهما عن درجة الثواب و فعل الأفضل و قوله تعالى في موضع آخر وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىا ينافي هذا المعنى لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب و الندب معا قوله فغوى أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه على أن صاحب الكتاب يقول إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقابا و لا ذما فعلى مذهبه أيضا تكون المفارقة بينه و بين أبي بكر ظاهرة لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار و الأبشار و يأتي ما يستحق به التقويم فأين هذا من ذنب صغير لا ذم و لا عقاب عليه و هو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله و حط رتبته و ليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية و الإشفاق على ما ظن لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك أ لا ترى أنه قال إن لي شيطانا يعتريني و هذا قول من قد عرف عادته و لو كان على سبيل الإشفاق و الخوف لخرج عن هذا المخرج و لكان يقول فإني آمن من كذا و إني لمشفق منه فأما ترك أمير المؤمنين ع مخاصمة الناس في حقوقه فكأنه إنما كان تنزها و تكرما و أي نسبة بين ذلك و بين من صرح و شهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة و أما خبر استقالة البيعة و تضعيف صاحب الكتاب له فهو أبدا يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه و قوله إنه ما استقال على التحقيق و إنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه و أنه غير مكره لهم عليه فبعيد من الصواب لأن ظاهر قوله أقيلوني أمر بالإقالة و أقل أحواله أن يكون عرضا لها و بذلا و كلا الأمرين قبيح و لو أراد ما ظنه لكان له شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 158في غير هذا القول مندوحة و لكايقول إني ما أكرهتكم و لا حملتكم على مبايعتي و ما كنت أبالي ألا يكون(18/137)