هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده من كان أنصحهم لله في ظنه و أطهرهم جيبا أي عفيفا أمينا و يكنى عن العفة و الأمانة بطهارة الجيب لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه. فإن قلت و أي تعلق لهذا بولاة الجيش إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم. ثم وصف ذلك الأمير فقال ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر أي يقبل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 53أدنى عذر و يستريح إليه و يسكن عنده و يرؤف على الضعفاء يرفق بهم و يرحمهم و الرأفة رحمة و ينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم و يبعد أي لا يمكنهم من الظلم و التعدي على الضعفاء و لا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف و قسوة و لا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا. ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات أي يكرمهم و يجعل معوله في ذلك عليهم و لا يتعداهم إلى غيرهم و كان يقال عليكم بذوي الأحساب فإن هم لم يتكرموا استحيوا. ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة و السخاء ثم قال إنها جماع من الكرم و شعب من العرف من هاهنا زائدة و إن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش أي جماع الكرم أي يجمعه
كقول النبي ص الخمر جماع الإثم(18/43)
و العرف المعروف. و كذلك من في قوله و شعب من العرف أي شعب العرف أي هي أقسامه و أجزاؤه و يجوز أن تكون من على حقيقتها للتبعيض أي هذه الخلال جملة من الكرم و أقسام المعروف و ذلك لأن غيرها أيضا من الكرم و المعروف و نحو العدل و العفة. قوله ثم تفقد من أمورهم الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء لما سنذكره مما يدل الكلام عليه. فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق و إنما المذكور الأمراء قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد و هو قوله الضعفاء و الأقوياء. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 54و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش ميتفقد الوالدان من حال الولد و أمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به و إن عظم و ألا يستحقر شيئا تعهدهم به و إن قل و ألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها و أمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده و أحظاهم عنده و أقربهم إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لأمراء الجند لو لا ذلك لما انتظم الكلام. قوله من خلوف أهليهم أي ممن يخلفونه من أولادهم و أهليهم. ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك إلا بحيطتهم على ولاتهم أي بتعطفهم عليهم و تحننهم و هي الحيطة على وزن الشيمة مصدر حاطه يحوطه حوطا و حياطا و حيطة أي كلأه و رعاه و أكثر الناس يروونها إلا بحيطتهم بتشديد الياء و كسرها و الصحيح ما ذكرناه. قوله و قلة استثقال دولهم أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم ثم لم يستثقلوا دولهم و لم يتمنوا زوالها. ثم أمره أن يذكر في المجالس و المحافل بلاء ذوي البلاء منهم فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع و يحرك الجبان. قوله و لا تضمن بلاء امرئ إلى غيره أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره. ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم و لا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة أنسابهم بل اذكر الأمور على حقائقها. ثم أمره أن يرد إلى(18/44)
الله و رسوله ما يضلعه من الخطوب أي ما يئوده و يميله
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 55لثقله و هذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء و إن كان لتلك وجهرسالة الإسكندر إلى أرسطو و رد أرسطو عليه
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات و ذوي الأحساب و أن يخصهم بالرئاسة و الإمرة و لا يعدل عنهم إلى العامة و السفلة فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع و وصيته. لما ملك الإسكندر ايرانشهر و هو العراق مملكة الأكاسرة و قتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو و هو ببلاد اليونان عليك أيها الحكيم منا السلام أما بعد فإن الأفلاك الدائرة و العلل السمائية و إن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائبين فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك غير جاحدين لفضلك و الإقرار بمنزلتك و الاستنامة إلى مشورتك و الاقتداء برأيك و الاعتماد لأمرك و نهيك لما بلونا من جدا ذلك علينا و ذقنا من جنا منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا و ترسخه في أذهاننا و عقولنا كالغذاء لنا فما ننفك نعول عليه و نستمد منه استمداد الجداول من البحور و تعويل الفروع على الأصول و قوة الأشكال بالأشكال و قد كان مما سيق إلينا من النصر و الفلج و أتيح لنا من الظفر و بلغنا في العدو من النكاية و البطش ما يعجز القول عن وصفه و يقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به و كان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية و الجزيرة إلى بابل و أرض فارس فلما حللنا بعقوة أهلها و ساحة بلادهم لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا و طلبا للحظوة عندنا فأمرنا بصلب من شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 56جاء به و شهرته لسوء بلائه و قلة ارعوائه و وفائه ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم و أحرار و ذي الشرف منهم فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم و أحلامهم حاضرة ألبابهم و أذهانهم رائعة مناظرهم و مناطقهم دليلا على أن ما يظهر من(18/45)
روائهم و منطقهم أن وراءه من قوة أيديهم و شدة نجدتهم و بأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم و إعطائهم بأيديهم لو لا أن القضاء أدالنا منهم و أظفرنا بهم و أظهرنا عليهم و لم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم و نجتث أصلهم و نلحقهم بمن مضى من أسلافهم لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم و بوائقهم فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك و تقليبك إياه بجلي نظرك و سلام أهل السلام فليكن علينا و عليك. فكتب إليه أرسطو لملك الملوك و عظيم العظماء الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء المهدي له الظفر بالملوك من أصغر عبيده و أقل خوله أرسطوطاليس البخوع بالسجود و التذلل في السلام و الإذعان في الطاعة أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق و إن احتشد الناطق فيه و اجتهد في تثقيف معانيه و تأليف حروفه و مبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك و سمو ارتفاعه عن كل قول و إبرازه على كل وصف و اغترافه بكل إطناب و قد كان تقرر عندي من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه و بروز شأوه و يمن نقيبته مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه و اضطرب في حس سمعي صوت لفظه و وقع وهمي(18/46)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 57على تعقيب نجاح رأيه أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه و مهما يكن مني إليه في ذلك فإنما هو عقل مردود إلى عقله مستنبطة أواليه و تواليه من علمه و حكمته و قد جلا إلى كتاب الملك مخاطبته إياي و مسألته لي عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك و إنتاجه من عنده فعنه صدر و عليه ورد و أنا فيما أشير به على الملك و إن اجتهدت فيه و احتشدت له و تجاوزت حد الوسع و الطاقة مني في استنظافه و استقصائه كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء و لكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل مع علمي و يقيني بعظيم غناه عني و شدة فاقتي إليه و أنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه و مشير عليه بما أخذته منه فقائل له إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل و إن لفارس قسمها من النجدة و القوة و إنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم و تورث سفلتهم على منازل عليتهم و تغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم و لم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم و أشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة و ذل الوجوه فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة و الحركة فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك و أهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه و لا بقية معه فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره و اعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء و الأحرار فوزع بينهم مملكتهم و ألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته و اعقد التاج على رأسه و إن صغر ملكه فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه و المعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه و بين صاحبه تدابرا و تقاطعا و تغالبا على الملك و تفاخرا بالمال و الجند حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك و أوتارهم فيك و يعود حربهم لك حربا شرح نهج البلاغة ج : 17 : 58بينهم و حنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم ثم لا يزدادون في ذلك(18/47)