أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمَا وَ إِنْ كَتَمْتُمَا أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي وَ لَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي وَ إِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَ بَايَعَنِي وَ إِنَّ الْعَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَانٍ غَالِبٍ وَ لَا لِحِرْصٍ حَاضِرٍ فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ فَارْجِعَا وَ تُوبَا إِلَى اللَّهِ مِنْ قَرِيبٍ وَ إِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ وَ إِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ وَ لَعَمْرِي مَا كُنْتُمَا بِأَحَقَّ الْمُهَاجِرِينَ بِالتَّقِيَّةِ وَ الْكِتْمَانِ وَ إِنَّ دَفْعَكُمَا هَذَا الْأَمْرَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَا فِيهِ كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ وَ قَدْ زَعَمْتُمَا أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمَانَ فَبَيْنِي وَ بَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَ عَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَ فَارْجِعَا أَيُّهَا الشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا فَإِنَّ الآْنَ أَعْظَمَ أَمْرِكُمَا الْعَارُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعَارُ وَ النَّارُ وَ السَّلَامُ(18/118)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 132عمران بن الحصينهو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضرة بن سلول بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي يكنى أبا بجيد بابنه بجيد بن عمران أسلم هو و أبو هريرة عام خيبر و كان من فضلاء الصحابة و فقهائهم يقول أهل البصرة عنه إنه كان يرى الحفظة و كانت تكلمه حتى اكتوى. و قال محمد بن سيرين أفضل من نزل البصرة من أصحاب رسول الله ص عمران بن الحصين و أبو بكرة و استقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة فعمل له أياما ثم استعفاه فأعفاه و مات بالبصرة سنة اثنتين و خمسين في أيام معاوية
أبو جعفر الإسكافي
و أما أبو جعفر الإسكافي و هو شيخنا محمد بن عبد الله الإسكافي عده قاضي القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة مع عباد بن سليمان الصيمري و مع زرقان و مع عيسى بن الهيثم الصوفي و جعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن ثم أبا عثمان الجاحظ ثم أبا موسى عيسى بن صبيح المردار ثم أبا عمران يونس بن عمران ثم محمد بن شبيب ثم محمد بن إسماعيل بن العسكري ثم عبد الكريم بن روح العسكري ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام ثم أبا الحسين الصالحي شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 133ثم الجعفران جعفر بن جرير و جعفر بن ميسر ثم أبا عمر بن النقاش ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي ثم عباد بن سليمان ثم أبا جعفر الإسكافي هذا و قال كان أبو جعفر فاضلا عالما و صنف سبعين كتابا في علم الكلام. و هو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته و دخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقض كتابي و أبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره. و كان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد و يبالغ في ذلك و كان علوي الرأي محققا منصفا قليل العصبية(18/119)
ثم نعود إلى شرح ألفاظ الفصل و معانيه قوله ع لم أرد الناس أي لم أرد الولاية عليهم حتى أرادوا هم مني ذلك. قال و لم أبايعهم حتى بايعوني أي لم أمدد يدي إليهم مد الطلب و الحرص على الأمر و لم أمددها إلا بعد أن خاطبوني بالإمرة و الخلافة و قالوا بألسنتهم قد بايعناك فحينئذ مددت يدي إليهم. قال و لم يبايعني العامة و المسلمون لسلطان غصبهم و قهرهم على ذلك و لا لحرص حاضر أي مال موجود فرقته عليهم. ثم قسم عليهما الكلام فقال إن كنتما بايعتماني طوعا عن رضا فقد وجب عليكما الرجوع لأنه لا وجه لانتقاض تلك البيعة و إن كنتما بايعتماني مكرهين عليها فالإكراه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 134له صورة و هي أن يجرد السيف و يمد العنق و لم يكن قد وقع ذلك و لا يمكنكما أن تدعياه و إن كنتما بايعتماني لا عن رضا و لا مكرهين بل كارهين و بين المكره و الكاره فرق بين فالأمور الشرعية إنما تبني على الهر و قد جعلتما لي على أنفسكما السبيل بإظهاركما الطاعة و الدخول فيما دخل فيه الناس و لا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء فما الذي جعلكما أحق المهاجرين كلهم بالكتمان و التقية. ثم قال و قد كان امتناعكما عن البيعة في مبدإ الأمر أجمل من دخولكما فيها ثم نكثها. قال و قد زعمتما أن الشبهة التي دخلت عليكما في أمري أني قتلت عثمان و قد جعلت الحكم بيني و بينكما من تخلف عني و عنكما من أهل المدينة أي الجماعة التي لم تنصر عليا و لا طلحة كمحمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و عبد الله بن عمر و غيرهم يعني أنهم غير متهمين عليه و لا على طلحة و الزبير فإذا حكموا لزم كل امرئ منا بقدر ما تقتضيه الشهادات و لا شبهة أنهم لو حكموا و شهدوا بصورة الحال لحكموا ببراءة علي ع من دم عثمان و بأن طلحة كان هو الجملة و التفصيل في أمره و حصره و قتله و كان الزبير مساعدا له على ذلك و إن لم يكن(18/120)
مكاشفا مكاشفة طلحة. ثم نهاهما عن الإصرار على الخطيئة و قال لهما إنكما إنما تخافان العار في رجوعكما و انصرافكما عن الحرب فإن لم ترجعا اجتمع عليكما العار و النار أما العار فلأنكما تهزمان و تفران عند اللقاء فتعيران بذلك و أيضا سيكشف للناس أنكما كنتما على باطل فتعيران بذلك و أما النار فإليها مصير العصاة إذا ماتوا على غير توبة و احتمال العار وحده أهون من احتماله و احتمال النار معه
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 55135- و من كتاب له ع إلى معاويةأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا وَ ابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ لَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَ لَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا وَ إِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا وَ قَدِ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِكَ وَ ابْتَلَاكَ بِي فَجَعَلَ أَحَدُنَا حُجَّةً عَلَى الآْخَرِ فَعَدَوْتَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَ طَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَ لَا لِسَانِي وَ عَصَبْتَهُ أَنْتَ وَ أَهْلُ الشَّامِ بِي وَ أَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ وَ قَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَ نَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ وَ اصْرِفْ إِلَى الآْخِرَةِ وَجْهَكَ فَهِيَ طَرِيقُنَا وَ طَرِيقُكَ وَ احْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللَّهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ الْأَصْلَ وَ تَقْطَعُ الدَّابِرَ فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللَّهِ أَلِيَّهً غَيْرَ فَاجِرَةٍ لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَ إِيَّاكَ جَوَامِعُ الْأَقْدَارِ لَا أَزَالُ بِبَاحَتِكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(18/121)
قال ع إن الله قد جعل الدنيا لما بعدها أي جعلها طريقا إلى الآخرة. و من الكلمات الحكمية الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها و ابتلي فيها أهلها أي اختبرهم ليعلم أيهم أحسن عملا و هذا من ألفاظ القرآن العزيز و المراد ليعلم خلقه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 136أو علم ملائكته و رسله فحذف المضاف و قد سبق ذكر شي ء يناسب ذلك فيما تقدم قال و لسنا للدنيا خلقنا أي لم نخلق للدنيا فقط. قال و لا بالسعي فيها أمرنا أي لم نؤمر بالسعي فيها لها بل أمرنا بالسعي فيها لغيرها. ثم ذكر أن كل واحد منه و من معاوية مبتلى بصاحبه و ذلك كابلاء آدم بإبليس و إبليس بآدم. قال فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن أي تعديت و ظلمت و على هاهنا متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام تقديره مثابرا على طلب الدنيا أو مصرا على طلب الدنيا و تأويل القرآن ما كان معاوية يموه به على أهل الشام فيقول لهم أنا ولي عثمان و قد قال الله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً. ثم يعدهم الظفر و الدولة على أهل العراق بقوله تعالى فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. قوله و عصبته أنت و أهل الشام أي ألزمتنيه كما تلزم العصابة الرأس و ألب عالمكم جاهلكم أي حرض. و القياد حبل تقاد به الدابة. قوله و احذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة الضمير في منه راجع إلى الله تعالى و من لابتداء الغاية. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 137و قال الراوندي منه أي من البهتان الذي أتيته أي من أجله و من للتعليل و هذا بعيو خلاف الظاهر. قوله تمس الأصل أي تقطعه و منه ماء ممسوس أي يقطع الغلة و يقطع الدابر أي العقب و النسل. و الألية اليمين و باحة الدار وسطها و كذلك ساحتها و روي بناحيتك. قوله بعاجل قارعة و جوامع الأقدار من باب إضافة الصفة إلى الموصوف للتأكيد كقوله تعالى وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(18/122)