وصى أكثم بن صيفي بنيه و رهطه فقال يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي إن بين حيزومي و صدري لكلاما لا أجد له مواقع إلا أسماعكم و لا مقار إلا قلوبكم فتلقوه بأسماع مصغية و قلوب دواعية تحمدوا مغبته الهوى شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 121يقظان و الع راقد و الشهوات مطلقة و الحزم معقول و النفس مهملة و الروية مقيدة و من جهة التواني و ترك الروية يتلف الحزم و لن يعدم المشاور مرشدا و المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل و من سمع سمع به و مصارع الرجال تحت بروق الطمع و لو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام و على الاعتبار طريق الرشاد و من سلك الجدد أمن العثار و لن يعدم الحسود أن يتعب قلبه و يشغل فكره و يورث غيظه و لا تجاوز مضرته نفسه يا بني تميم الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة و من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم و كلم اللسان أنكى من كلم السنان و الكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم فإذا نجمت مزجت فهي أسد محرب أو نار تلهب و رأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز و نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن و الضرب. و أوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا حين استخلفه على جرجان فقال له يا بني قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم فرش و اصطنع عند الذين بهم ترمي(18/108)
و انظر هذا الحي من ربيعة فإنهم شيعتك و أنصارك فاقض حقوقهم و انظر هذا الحي من تميم فأمطرهم و لا تزه لهم و لا تدنهم فيطمعوا و لا تقصهم فيقطعوا و انظر هذا الحي من قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية و مناصفوهم المآثر في الإسلام و رضاهم منك البشر يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه و إياك و الدماء فإنه لا تقية معها و إياك و شتم الأعراض فإن الحر شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 122لا يرضيه عن عرضه عوض و إياك و ضرب الأبشار فإنه عار باق و وتر مطلوب و استعمل على النجدة و الفضل دون اله و لا تعزل إلا عن عجز أو خيانة و لا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها و ليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم و إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه و ليكن رسولك فيما بيني و بينك من يفقه عني و عنك فإن كتاب الرجل موضع عقله و رسوله موضع سره و أستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت و للمشيع أن يرجع و ما عف من المنطق و قل من الخطيئة أحب إلى أبيك. و أوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال يا بني خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم فسودوا أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم و إذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم و إياكم و معصية الله و قطيعة الرحم و تمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع و من وضعوا اتضع و عليكم بهذا المال فأصلحوه فإنه منبهة للكريم و جنة لعرض اللئيم و إياكم و المسألة فإنها آخر كسب الرجل و إن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب و إياكم و النياحة فإني سمعت رسول الله ص ينهى عنها و ادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها و أصوم و لا يعلم بكر بن وائل بمدفني فقد كانت بيني و بينهم مشاحنات في الجاهلية و الإسلام و أخاف أن يدخلوا عليكم بي عارا و خذوا عني ثلاث خصال إياكم و كل عرق(18/109)
لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا و اكظموا الغيظ و احذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 12أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا فلن تبيد و للآباء أبناء
قال ابن الكلبي فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير و ما هو إلا لقيس بن عاصم. و أوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال يا بني إني قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي و أجدادي و لا بد من أمر مقتبل و أن ينزل بي ما نزل بالآباء و الأجداد و الأمهات و الأولاد فاحفظوا عني ما أوصيكم به إني و الله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله إن حقا فحق و إن باطلا فباطل و من سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم و صلوا أرحامكم تعمر داركم و أكرموا جاركم بحسن ثنائكم و زوجوا بنات العم بني العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء و أبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال فإنه أغض للبصر و أعف للذكر و متى كانت المعاينة و اللقاء ففي ذلك داء من الأدواء و لا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه و قل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته و امنعوا القريب من ظلم الغريب فإنك تدل على قريبك و لا يجمل بك ذل غريبك و إذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء فرب رجل خير من ألف و ود خير من خلف و إذا حدثتم فعوا و إذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار يكون الإهذار و موت عاجل خير من ضنى آجل و ما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان و ربما شجاني من لم يكن أمره شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 124عناني و ما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة و اعلموا أن أشجع القوم العطوف و خير الموت تحت ظلال السيوف و لا خير فيمن لا روية له عند الغضب و لا فيمن إذا عوتب لم يعتب و من الناس من لا يرجى خيره و لا يخاف شره كوؤه خير من دره و عقوقه خير من بره و لا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض و كم قد زارني إنسان و زرته(18/110)
فانقلب الدهر بنا فقبرته و اعلموا أن الحليم سليم و أن السفيه كليم أني لم أمت و لكن هرمت و دخلتني ذلة فسكت و ضعف قلبي فأهترت سلمكم ربكم و حياكم. و من كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه و الملوك من بعده رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان الملك و الدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فالدين أس الملك و عماده ثم صار الملك حارس الدين فلا بد للملك من أسه و لا بد للدين من حارسه فأما ما لا حارس له فضائع و ما لا أس له فمهدوم إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين و تأويله و التفقه فيه فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم فتحدث في الدين رئاسات منتشرات سرا فيمن قد وترتم و جفوتم و حرمتم و أخفتم و صغرتم من سفلة الناس و الرعية و حشو العامة ثم لا تنشب تلك الرئاسات أن تحدث خرقا في الملك و وهنا في الدولة و اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية لا على قلوبها و إن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في عقولهم و آرائهم و مكايدهم و اعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه و هو أقطع سيفيه و إن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين فكان للدنيا يحتج و للدين فيما يظهر يتعصب فيكون(18/111)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 125للدين بكاؤه و إليه دعاؤه ثم هو أوحد للتابعين و المصدقين و المناصحين و المؤازرين لأن تعصب الناس موكل بالملوك و رحمتهم و محبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين فاحذروا هذا المعنى كل الحذر و اعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد النساك بأن يكونوا أولى بالدين منه و لا أحدب عليه و لا أغضب له و لا ينبغي له أن يخلي النساك و العباد من الأمر و النهي في نسكهم و دينهم فإن خروج النساك و غيرهم من الأمر و النهي عيب على الملوك و على المملكة و ثلمة بينة الضرر على الملك و على من بعده. و اعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش و الجماعة بالتفضيل و الفراغ بالاشتغال كتعهده جسده بقص فضول الشعر و الظفر و غسل الدرن و الغمر و مداواة ما ظهر من الأدواء و ما بطن و قد كان من أولئك الملوك من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد و كان أرواحهم روح واحدة يمكن أولهم لآخرهم و يصدق آخرهم أولهم يجتمع أبناء أسلافهم و مواريث آرائهم و ثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم و كأنهم جلوس معه يحدثونه و يشاورونه حتى كأن على رأس دارا بن دارا ما كان من غلبة الإسكندر الرومي على ما غلب عليه من ملكه و كان إفساده أمرنا و تفرقته جماعتنا و تخريبه عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا فلما أذن الله عز و جل في جمع مملكتنا و إعادة أمرنا كان من بعثه إيانا ما كان و بالاعتبار يتقى العثار و التجارب الماضية دستور يرجع إليه من الحوادث الآتية. و اعلموا أن طباع الملوك على غير طباع الرعية و السوقة فإن الملك يطيف به العز و الأمن و السرور و القدرة على ما يريد و الأنفة و الجرأة و العبث و البطر و كلما ازداد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 126في العمر تنفسا و في الملك سلامة ازد من هذه الطبائع و الأخلاق حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان الذي هو أشد(18/112)