و هو مثل صحيح فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة و المهد هو أحد جانبي القنطرة و اللحد الجانب الآخر و بينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة و منهم من قطع ثلثيها و منهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة و هو غافل عنها و كيفما كان فلا بد من العبور و الانتهاء و لا ريب أن عمارة هذه القنطرة و تزيينها بأصناف الزينة لمن شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 330هو محمول قسرا و قهرا على عبورها يسوقه سائق عنيف غاية الجهل و الخذلان. و في الحديث المرفوع أن رسول الله ص مر على شاة ميتة فقال أ ترون أن هذه الشاة هينة على أهلها قالوا نعم و من هوانها ألقوها فقال و الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها و لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء
و قال ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
و قال أيضا الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها
و قال أيضا من أحب دنياه أضر بآخرته و من أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى
و قال أيضا حب الدنيا رأس كل خطيئة
و روى زيد بن أرقم قال كنا مع أبي بكر فدعا بشراب فأتي بماء و عسل فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا و ما سكت ثم عاد ليشرب فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك قال كنت مع رسول الله ص فرأيته يدفع بيده عن نفسه شيئا و لم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها إليك عني فرجعت و قالت إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك و قال ص يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور
و من الكلام المأثور عن عيسى ع لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا فاكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة و صاحب كنز الآخرة لا يخاف عليه(20/196)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 392331مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَنْ فَاتَهُ حَسَبُ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ حَسَبُ آبَائِهِقد تقدم مثل هذا و قد ذكرنا ما عندنا فيه و قال الشاعر
لئن فخرت بآباء ذوي حسب لقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا
و كان يقال أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية و تبجح بالقرون 0- الماضية و اتكل على الأيام الخالية. و كان يقال من طريف الأمور حي يتكل على ميت. و كان يقال ضعة الدني ء في نفسه و الرفيع في أصله أقبح من ضعة الوضيع في نفسه و أصله لأن هذا تشبه بآبائه و سلفه و اك قصر عن أصله و سلفه فهو إلى الملامة أقرب و عن العذر أبعد. افتخر شريف بأبيه فقال خصمه لو وفقت لما ذكرت أباك لأنه حجة عليك تنادي بنقصك و تقر بتخلفك. كان جعفر بن يحيى يقول ليس من الكرام من افتخر بالعظام. و قال الفضل بن الربيع كفى بالمرء عارا أن يفتخر بغيره. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 332و قال الرشيد من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز و أقر على همته بالدناءة. و قال ابن الروميو ما الحسب الموروث لا در دره بمحتسب إلا بآخر مكتسب إذا العود لم يثمر و إن كان شعبة من الثمرات أعتده الناس في الحطبو قال عبد الله بن جعفر
لسنا و إن أحسابنا كرمت يوما على الآباء نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني و نفعل مثل ما فعلواو قال آخر
و ما فخري بمجد قام غيري إليه إذا رقدت الليل عنه إلى حسب الفتى في نفسه انظر و لا تنظر هديت إلى ابن من هوو قال آخر
إذا فخرت بآبائي و أجدادي فقد حكمت على نفسي لأضدادي هل نافعي إن سعى جدي لمكرمة و نمت عن أختها في جانب الواديو قال آخر(20/197)


أ يقنعني كوني بمن كوني ابنه أبا لي أن أرضى لفخري بمجده إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه فليس بحاو للعلاء بجده و هل يقطع السيف الحسام بأصله إذا هو لم يقطع بصارم حدو قيل لرجل يدل بشرف آبائه لعمري لك أول و لكن ليس لأولك آخر. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 333و مثله أن شريفا بآبائه فاخر شريفا بنفسه فقال الشريف بنفسه انتهى إليك شرف أهلك و مني ابتدأ شرف أهلي و شتان بين الابتداء و الانتهاء. و قيل لشريف ناقص الأدب إن شرفك بأك لغيرك و شرفك بنفسك لك فافرق بين ما لك و ما لغيرك و لا تفرح بشرف النسب فإنه دون شرف الأدب(20/198)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 393334مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُهذا مثل قولهم من طلب و جد وجد. و قال بعض الحكماء ما لازم أحد باب الملك فاحتمل الذل و كظم الغيظ و رفق بالبواب و خالط الحاشية إلا وصل إلى حاجته من الملك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 394335مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ وَ كُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ مَحْقُورٌ وَ كُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌموضع بعده النار رفع لأنه صفة خير الذي بعد ما و خير يرفع لأنه اسم ما و موضع الجار و المجرور نصب لأنه خبر ما و الباء زائدة مثلها في قولك ما أنت بزيد كما تزاد في خبر ليس و التقدير ما خير تتعقبه النار بخير كما تقول ما لذة تتلوها نغصة بلذة و لا ينقدح في ما الوجهان اللذان ذكرهما أرباب الصناعة النحوية في لا في قولهم لا خير بخير بعده النار أحدهما ما ذكرناه في ما و الآخر أن يكون موضع بعده النار جرا لأنه صفة خير المجرور و يكون معنى الباء معنى في كقولك زيد بالدار و في الدار و يصير تقدير الكلام لا خير في خير تعقبه النار و ذلك أن ما تستدعي خبرا موجودا في الكلام بخلاف لا فإن خبرها محذوف في مثل قولك لا إله إلا الله و نحوه أي في الوجود أو لنا أو ما أشبه ذلك و إذا جعلت بعده صفة خير المجرور لم يبق معك ما تجعله خبر ما. و أيضا فإن معنى الكلام يفسد في ما بخلاف لا لأن لا لنفي الجنس فكأنه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 336نفى جنس الخير عن خير تتعقبه النار و هذا معنى صحيح و كلام منتظم و ما هاهنا إن كانت نافية احتاجت إلى خبر ينتظم به الكلام و إن كانت استفهاما فسد المعنى لأن ما لفظ يطلب به معنى الاسم كقوله ما العنقاء أو يطلب به حقيقة الت كقولك ما الملك و لست تطيق أن تدعي أن ما للاستفهام هاهنا عن أحد القسمين مدخلا لأنك تكون كأنك قد قلت أي شي ء هو خير في خير تتعقبه النار و هذا كلام لا(20/199)


معنى له شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 395337أَلَا وَ إِنَّ مِنَ الْبَلَاءِ الْفَاقَةَ وَ أَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ أَلَا وَ إِنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةَ الْمَالِ وَ أَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ الْمَالِ صِحَّ الْبَدَنِ وَ أَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ
قد تقدم الكلام في الفاقة و الغنى فأما المرض و العافية
ففي الحديث المرفوع إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية
فأما مرض القلب و صحته فالمراد به التقوى و ضدها و قد سبق القول في ذلك. و قال أحمد بن يوسف الكاتب
المال للمرء في معيشته خير من الوالدين و الولدو إن تدم نعمة عليك تجد خيرا من المال صحة الجسدو ما بمن نال فضل عافية و قوت يوم فقر إلى أحد
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 396338لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَ سَاعَةٌ يَرُمُّ فِيهَا مَعَايِشَهُ وَ سَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَ بَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَ يَجْمُلُ وَ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ كُونَ شَاخِصاً إِلَّا فِي ثَلَاثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ(20/200)

146 / 150
ع
En
A+
A-