شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 389324احْذَرْ أَنْ يَرَاكَ اللَّهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ وَ يَفْقِدَكَ عِنْدَ طَاعَتِهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَ إِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَ إِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِمن علم يقينا أن الله تعالى يراه عند معصيته كان أجد الناس أن يجتنبها كما إذا علمنا يقينا أن الملك يرى الواحد منا و هو يراود جاريته عن نفسها أو يحادث ولده ليفجر به و لكن اليقين في البشر ضعيف جدا أو أنهم أحمق الحيوان و أجهله و بحق أقول إنهم إن اعتقدوا ذلك اعتقادا لا يخالطه الشك ثم واقعوا المعصية و عندهم عقيدة أخرى ثابتة أن العقاب لاحق بمن عصى فإن الإبل و البقر أقرب إلى الرشاد منهم. و أقول إن الذي جرأ الناس على المعصية الطمع في المغفرة و العفو العام و قولهم الحلم و الكرم و الصفح من أخلاق ذوي النباهة و الفضل من الناس فكيف لا يكون من الباري سبحانه عفو عن الذنوب. و ما أحسن قول شيخنا أبي علي رحمه الله لو لا القول بالإرجاء لما عصي الله في الأرض
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 390325الرُّكُونُ إِلَى الدُّنْيَا مَعَ مَا تُعَايِنَ مِنْهَا جَهْلٌ وَ التَّقْصِيرُ فِي حُسْنِ الْعَمَلِ إِذَا وَثِقْتَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ غَبْنٌ وَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ لَهُ عَجْزٌقد تقدم الكلام في الدنيا و حمق من يركن إليها مع معاينة غدرها و قلة وفائها و نقضها عهودها و قتلها عشاقها. و لا ريب أن الغبن و أعظم الغبن هو التقصير في الطاعة مع يقين الثواب عليها و أما الطمأنينة إلى من لم يعرف و لم يختبر فإنها عجز كما قال ع يعني عجزا في العقل و الرأي فإن الوثوق مع التجربة فيه ما فيه فكيف قبل التجربة. و قال الشاعر
و كنت أرى أن التجارب عدة فخانت ثقات الناس حين التجارب(20/191)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 391326مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا وَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِتَرْكِهَاهذا الكلام نسبه الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين إلى أبي الدرداء و الصحيح أنه من كلام علي ع ذكره شيخنا أبو عثمان الجاحظ في غير موضع من كتبه و هو أعرف بكلام الرجال
نبذ مما قيل في حال الدنيا و هوانها و اغترار الناس بها
و قد تقدم من كلامنا في حال الدنيا و هوانها على الله و اغترار الناس بها و غدرها بهم و ذم العقلاء لها و تحذيرهم منها ما فيه كفاية. و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك.
يقال إن في بعض كتب الله القديمة الدنيا غنيمة الأكياس و غفلة الجهال لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا(20/192)


و قال بعض العارفين من سأل الله تعالى الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 327و قال الحسن لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث أنه لم يشبع مما جمع و لم يدرك ما أمل و لم يحسن الزاد لما يقدم عليه. و من كلامه أهينوا الدن فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. و قال محمد بن المنكدر أ رأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر و قام الليل لا يفتر و تصدق بماله و جاهد في سبيل الله و اجتنب محارم الله تعالى غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال إن هذا مع ما قد عمل كان يعظم في عينه ما صغر الله و يصغر في عينه ما عظم الله كيف ترى يكون حاله فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب و الخطايا. و قد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا قالوا مثل الدنيا و أهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة و حذرهم المقام و خوفهم مرور السفينة و استعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته و بادر إلى السفينة فصادف المكان خاليا فأخذ أوسع المواضع و ألينها و أوفقها لمراده و بعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أزهارها و أنوارها العجيبة و غياضها الملتفة و نغمات طيورها الطيبة و ألحانها الموزونة الغريبة و لحظ في تزيينها أحجارها و جواهرها و معادنها المختلفة الألوان ذوات الأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجها و عجائب صورها ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا فاستقر فيه و بعضهم أكب فيها على تلك الأصداف و الأحجار و قد أعجبه حسنها و لم تسمح نفسه بإهمالها و تركها فاستصحب منها جملة فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا و زاده ما حمله ضيقا و صار ثقلا عليه و وبالا فندم على أخذه و لم تطعه نفسه على رميه و لم يجد موضعا له فحمله على عنقه(20/193)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 328و رأسه و جلس في المكان الضيق في السفينة و هو متأسف على أخذه و نادم و ليس ينفعه ذلك و بعضهم تولج بتلك الأنوار و الغياض و نسي السفينة و أبعد في متفرجه و متنزهه حتى أن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار و اشتمامه تلالأنوار و التفرج بين تلك الأشجار و هو مع ذلك خائف على نفسه من السباع و السقطات و النكبات و نهش الحيات و ليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه و غصن يجرح جسمه و مروة تدمي رجله و صوت هائل يفزع منه و عوسج يملأ طريقه و يمنعه عن الانصراف لو أراده و كان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا و لا ضيقا فبقي على الشط حتى مات جوعا و بعضهم بلغه النداء فلم يعرج عليه و استغرقته اللذة و سارت السفينة فمنهم من افترسته السباع و منهم من تاه و هام على وجهه حتى هلك و منهم من ارتطم في الأوحال و منهم من نهشته الحيات فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الأزهار و الفاكهة اللذيذة و الأحجار المعجبة فإنها استرقته و شغله الحزن بحفظها و الخوف من ذهابها عن جميع أموره و ضاق عليه بطريقها مكانه فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار و فسدت تلك الفاكهة الغضة و كمدت ألوان الأحجار و حالت فظهر له نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها و وحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها و قد أثر في مزاجه ما أكله منها فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بما أكل و ما شم من تلك الروائح فبلغ سقيما وقيذا مدبرا و أما من كان رجع عن قريب و ما فاته إلا سعة المحل فإنه تأذى بضيق المكان مدة و لكن لما وصل إلى الوطن استراح و أما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع و وصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 329فهذا مثال أهل(20/194)


الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة و نسيانهم موردهم و مصدرهم و غفلتهم عن عاقبة أمرهم و ما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل و تغره حجارة الأرض و هي الذهب و الفضة و هشيم النبت و هو زينة الدنيا و هيعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت بل يصير كله وبالا عليه و هو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه و الحزن و الهم لحفظه و هذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله. و قد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الإنسان عليها قالوا الأحوال ثلاثة حال لم يكن الإنسان فيها شيئا و هي ما قبل وجوده إلى الأزل و حال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا و هي بعد موته إلى الأبد و حالة متوسطة بين الأزل و الأبد و هي أيام حياته في الدنيا فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين و لينظر إلى الحالة المتوسطة هل يجد لها نسبة إليها و إذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها و لم يبال كيف تقضت أيامه فيها في ضر و ضيق أو في سعة و رفاهة بل لا يبني لبنة على لبنة
توفي رسول الله ص و ما وضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال أرى الأمر أعجل من هذا و أنكر ذلك
و لهذا قال النبي ص ما لي و للدنيا إنما مثلي و مثلها كراكب سار في يوم صائف فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح و تركها
و إلى هذا أشار عيسى ابن مريم حيث قال الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها(20/195)

145 / 150
ع
En
A+
A-