و من شرف الجود أن الله سبحانه قرن ذكره بالإيمان و وصف أهله بالفلاح و الفلاح اسم جامع لسعادة الدارين قال سبحانه الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ إلى قوله وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و قال وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. و حق للجود بأن يقرن بالإيمان فلا شي ء أخص به و أشد مجانسة له منه فإن من صفة المؤمن انشراح الصدر كما قال تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ ُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ و هذا من صفات الجواد و البخيل لأن الجواد واسع الصدر منشرح مستبشر للإنفاق و البذل و البخيل قنوط ضيق الصدر حرج القلب ممسك. و
قال النبي ص و أي داء أدوأ من البخل
و البخل على ثلاثة أضرب بخل الإنسان بماله على نفسه و بخله بماله على غيره و بخله شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 318بمال غيره على نفسه أو على غيره و أفحشها بخله بمال غيره على نفسه و أهونها و إن كان لا هين فيها بخله بماله على غيره. و قال ع اللهم اجعل لمنفق خلفا و لممسك تلفا
و قال إن الله عز و جل ينزل المعونة على قدر المئونة
و قال أيضا من وسع وسع عليه(20/186)
و قالت الفلاسفة الجود على أقسام فمنها الجود الأعظم و هو الجود الإلهي و هو الفيض العام المطلق و إنما يختلف لاختلاف المواد و استعداداتها و إلا فالفيض في نفسه عام غير خاص و بعده جود الملوك و هو الجود بجزء من المال على من تدعوهم الدواعي و الأغراض إلى الجود عليه و يتلوه جود السوقة و هو بذل المال للعفاة أو الندامى و الشرب و المعاشرين و الإحسان إلى الأقارب. قالوا و اسم الجود مجاز إلا الجود الإلهي العام فإنه عار عن الغرض و الداعي و أما من يعطي لغرض و داع نحو أن يحب الثناء و المحمدة فإنه مستعيض و تاجر يعطي شيئا ليأخذ شيئا قالوا قول أبي نواس
فتى يشتري حسن الثناء بماله و يعلم أن الدائرات تدور
ليس بغاية في الوصف بالجود التام بل هو وصف بتجارة محمودة و أحسن منه قول ابن الرومي
و تاجر البر لا يزال له ربحان في كل متجر تجره أجر و حمد و إنما طلب الأجر و لكن كلاهما اعتورهو أحسن منهما قول بشار
ليس يعطيك للرجاء و لا الخوف و لكن يلذ طعم العطاء
و نحن قد ذكرنا ما في هذا الموضع من البحث العقلي في كتبنا العقلية
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 385319يَا ابْنَ آدَمَ الرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ فَلَا تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَى هَمِّ يَوْمِكَ كَفَاكَ كُلَّ يَوْمٍ مَا فِيهِ فَإِنْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُؤْتِيكَ فِي كُلِّ غَدٍ جَدِيدٍ مَا قَسَمَ لَكَ وَ إِنْ لَمْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ فِيمَا لَيْسَ لَكَ وَ لَمْ يَسْبِقْكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ وَ لَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْهِ غَالِبٌ وَ لَنْ يُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَكَ
قال و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم من هذا الباب إلا أنه هاهنا أوضح و أشرح فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أول هذا الكتاب(20/187)
قد تقدم القول في معاني هذا الفصل و روي أن جماعة دخلوا على الجنيد فاستأذنوه في طلب الرزق فقال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه قالوا فنسأل الله تعالى ذلك قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا فندخل البيت و نتوكل و ننتظر ما يكون فقال التوكل على التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة. و روي أن رجلا لازم باب عمر فضجر منه فقال له يا هذا هاجرت إلى الله تعالى أم إلى باب عمر اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر فذهب الرجل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 320و غاب مدة حتى افتقده عمر فإذا هو معتزل مشتغل بالعبادة فأت عمر فقال له إني اشتقت إليك فما الذي شغلك عنا قال إني قرأت القرآن فأغناني عن عمر و آل عمر فقال رحمك الله فما وجدت فيه قال وجدت فيه وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ فقلت رزقي في السماء و أنا أطلبه في الأرض إني لبئس الرجل فبكى عمر و قال صدقت و كان بعد ذلك ينتابه و يجلس إليه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 386321رُبَّ مُسْتَقْبِلٍ يَوْماً لَيْسَ بِمُسْتَدْبِرِهِ وَ مَغْبُوطٍ فِي أَوَّلِ لَيْلِهِ قَامَتْ بَوَاكِيهِ فِي آخِرِهِمثل هذا قول الشاعر
يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
و مثله
لا يغرنك عشاء ساكن قد يوافي بالمنيات السحر(20/188)
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 387322الْكَلَامُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَ وَرِقَكَ فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةًقد تقدم القول في مدح الصمت و ذم الكلام الكثير. و كان يقال لا خير في الحياة إلا لصموت واع أو ناطق محسن. و قيل لحذيفة قد أطلت سجن لسانك فقال لأنه غير مأمون إذا أطلق. و من أمثال العرب رب كلمة تقول دعني. و قالوا أصلها أن بعض ملوك الحيرة كان قد استراب ببعض خوله فنزل يوما و هو يتصيد على تلعة و نزل أصحابه حوله فأفاضوا في حديث كثير فقال ذلك الإنسان أ ترى لو أن رجلا ذبح على رأس هذه التلعة هل كان يسيل دمه إلى أول الغائط فقال الملك هلموا فاذبحوه لننظر فذبحوه فقال الملك رب كلمة تقول دعني. و قال أكثم بن صيفي من إكرام الرجل نفسه ألا يتكلم بكل ما يعلم. و تذاكر قوم من العرب و فيهم رجل باهلي ساكت فقيل له بحق ما سميتم خرس العرب فقال أ ما علمتم أن لسان المرء لغيره و سمعه لنفسه(20/189)
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 388323لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ بَلْ لَا تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِهذا نهي عن الكذب و أن تقول ما لا تأمن من كونه كذبا فإن الأمرين كليهما قبيحان عقلا عند أصحابنا. فإن قلت كيف يقول أصحابكم أن الخبر الذي لا يأمن كونه كذبا قبيح و الناس يستحسنون الأخبار عن المظنون قلت إذا قال الإنسان زيد في الدار و هو يظنه في الدار و لا يقطع عليه فإن الحسن منه أن يخبر عن ظنه كأن يقول أخبر عن أني أظن أن زيدا في الدار و إذا كان هذا هو تقديره فالخبر إذن خبر عن معلوم لا عن مظنون لأنه قاطع على أنه ظان أن زيدا في الدار. فأما إذا فرض الخبر لا على هذا الوجه بل على القطع بأن زيدا في الدار و هو لا يقطع على أن زيدا في الدار فقد أخبر بخبر ليس على ما أخبر به عنه لأنه أخبر عن أنه قاطع و ليس بقاطع فكان قبيحا(20/190)