هذه صفة حال أهل الضلال و الفسق و الرياء من هذه الأمة أ لا تراه يقول سكانها و عمارها يعني سكان المساجد و عمار المساجد شر أهل الأرض لأنهم أهل ضلالة كمن يسكن المساجد الآن ممن يعتقد التجسم و التشبيه و الصورة و النزول و الصعود و الأعضاء و الجوارح و من يقول بالقدر يضيف فعل الكفر و الجهل و القبيح إلى الله تعالى فكل هؤلاء أهل فتنة يردون من خرج منها إليها و يسوقون من لم يدخل فيها إليها أيضا. ثم قال حاكيا عن الله تعالى إنه حلف بنفسه ليبعثن على أولئك فتنة يعني استئصالا و سيفا حاصدا يترك الحليم أي العاقل اللبيب فيها حيران لا يعلم كيف وجه خلاصه. ثم قال ع و قد فعل و ينبغي أن يكون قد قال هذا الكلام في أيام خلافته لأنها كانت أيام السيف المسلط على أهل الضلال من المسلمين و كذلك ما بعثه الله تعالى على بني أمية و أتباعهم من سيوف بني هاشم بعد انتقاله ع َ شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 376300وَ رُوِيَ أَنَّهُ ع قَلَّمَا اعْتَدَلَ بِهِ الْمِنْبَرُ إِلَّا قَالَ أَمَامَ خُطْبَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فَمَا خُلِقَ امْرُؤٌ عَبَثاً فَيَلْهُوَ وَ لَا تُرِكَ سُدًى فَيَلْغُوَ وَ مَا دُنْيَاهُ الَّتِي تَسَّنَتْ لَهُ بِخَلَفٍ مِنَ الآْخِرَةِ الَّتِي قَبَّحَهَا سُوءُ النَّظَرِ عِنْدَهُ وَ مَا الْمَغْرُورُ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَعْلَى هِمَّتِهِ كَالآْخَرِ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الآْخِرَةِ بِأَدْنَى سُهْمَتِهِ
قال تعالى أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. و
من الكلمات النبوية أن المرء لم يترك سدى و لم يخلق عبثا(20/171)
و قال أمير المؤمنين ع إن من ظفر من الدنيا بأعلى و أعظم أمنية ليس كآخر ظفر من الآخرة بأدون درجات أهل الثواب لا مناسبة و لا قياس بين نعيم الدنيا و الآخرة. و في قوله ع التي قبحها سوء المنظر عنده تصريح بمذهب أصحابنا أهل العدل رحمهم الله و هو أن الإنسان هو الذي أضل نفسه لسوء نظره و لو كان الله تعالى هو الذي أضله لما قال قبحها سوء النظر عنده
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 377301لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الْإِسْلَامِ وَ لَا عِزَّ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوَى وَ لَا مَعْقِلَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَرَعِ وَ لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ وَ لَا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ وَ لَا مَالَ أَذْهَبُ لِلَاقَةِ مِنَ الرِّضَا بِالْقُوتِ وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَ تَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ وَ الدَّعَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَ مَطِيَّةُ التَّعَبِ وَ الْحِرْصُ وَ الْكِبْرُ وَ الْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ وَ الشَّرُّ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ(20/172)
كل هذه المعاني قد سبق القول فيها مرارا شتى نأتي كل مرة بما لم نأت به فيما تقدم و إنما يكررها أمير المؤمنين ع لإقامة الحجة على المكلفين كما يكرر الله سبحانه في القرآن المواعظ و الزواجر لذلك كان أبو ذر رضي الله عنه جالسا بين الناس فأتته امرأته فقالت أنت جالس بين هؤلاء و لا و الله ما عندنا في البيت هفة و لا سفة فقال يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئودا لا ينجو منها إلا كل مخف فرجعت و هي راضية. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 302و قيل لبعض الحكماء ما مالك قال التجمل في الظاهر و القصد في الباطن و الغنى عما في أيدي الناسو قال أبو سليمان الداراني تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غني ألف عام. و قال رجل لبشر بن الحارث ادع لي فقد أضر الفقر بي و بعيالي فقال إذا قال لك عيالك ليس عندنا دقيق و لا خبز فادع لبشر بن الحارث في ذلك الوقت فإن دعاءك أفضل من دعائه. و من دعاء بعض الصالحين اللهم إني أسألك ذل نفسي و الزهد فيما جاوز الكفاف
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 378303وَ قَالَ ع لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ يَا جَابِرُ قِوَامُ الدِّينِ وَ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ عَالِمٍ يَسْتَعْمِلُ عِلْمَهُ وَ جَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَ جَوَادٍ لَا يَبْخَلُ بِمَعْرُِهِ وَ فَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَإِذَا ضَيَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَهُ اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَ إِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ يَا جَابِرُ مَنْ كَثُرَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ فَمَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَةَ اللَّهِ لِدَوَامِهَا وَ مَنْ ضَيَّعَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَتَهُ لِزَوَالِهَا(20/173)
قد تقدم القول في هذه المعاني و الحاصل أنه ربط اثنتين من أربعة إحداهما بالأخرى و كذلك جعل في الاثنتين الأخريين فقال إن قوام الدين و الدنيا بأربعة عالم يستعمل علمه يعني يعمل و لا يقتصر على أن يعلم فقط و لا يعمل و جاهل لا يستنكف أن يتعلم و أضر ما على الجهلاء الاستنكاف من التعلم فإنهم يستمرون على الجهالة إلى الموت و الثالث جواد لا يبخل بالمعروف و الرابع فقير لا يبيع آخرته بدنياه أي لا يسرق و لا يقطع الطريق أو يكتسب الرزق من حيث لا يحبه الله كالقمار و المواخير و المزاجر و المآصر و نحوها. شرح نهج البلاغة ج : 19 : 304ثم قال فالثانية مرتبطة بالأولى إذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم و ذلك لأن الجاهل إذا رأى العالم يعصي و يجاهر الله بالفسق زهد في التعلم و قال لما ذا تعلم العلم إذا كانت ثمرته الفسق و المعصية. ثم قال و الرابعة مرتبطة بالثالثة إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه و ذلك لأنه إذا عدم الفقير المواساة مع حاجته إلى القوت دعته الضرورة إلى الدخول في الحرام و الاكتساب من حيث لا يحسن و ينبغي أن يكون عوض لفظة جواد لفظة غني ليطابق أول الكلام آخره إلا أن الرواية هكذا وردت و جواد لا يبخل بمعروفه و في ضمير اللفظ كون ذلك الجواد غنيا لأنه قد جعل له معروفا و المعروف لا يكون إلا عن ظهر غنى و باقي الفصل قد سبق شرح أمثاله(20/174)
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 379305وَ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْفَقِيهِ وَ كَانَ مِمَّنْ خَرَجَ لِقِتَالِ الْحَجَّاجِ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا كَانَ يَحُضُّ بِهِ النَّا عَلَى الْجِهَادِ إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيّاً رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فِي الصَّالِحِينَ وَ أَثَابَهُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ وَ الصِّدِّيقِينَ يَقُولُ يَوْمَ لَقِينَا أَهْلَ الشَّامِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِنَّهُ مَنْ رَأَى عُدْوَاناً يُعْمَلُ بِهِ وَ مُنْكَراً يُدْعَى إِلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَ بَرِئَ وَ مَنْ أَنْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ وَ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ وَ مَنْ أَنْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْعُلْيَا وَ كَلِمَةُ الظَّالِمِينَ السُّفْلَى فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ سَبِيلَ الْهُدَى وَ قَامَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ نُوِّرَ فِي قَلْبِهِ الْيَقِينُ
قد تقدم الكلام في النهي عن المنكر و كيفية ترتيبه و كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل مطابق لما يقوله المتكلمون رحمهم الله. و قد ذكرنا فيما تقدم و سنذكر فيما بعد من هذا المعنى ما يجب و كان النهي عن المنكر معروفا في العرب في جاهليتها كان في قريش حلف الفضول تحالفت قبائل منها على أن يردعوا الظالم و ينصروا المظلوم و يردوا عليه حقه ما بل بحر صوفة و قد ذكرنا فيما تقدم(20/175)