من دليل و هل إلى الطبيب من سبيل فتدعى لك الأطباء و لا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى و ماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه و لا يعرف جيرانه و عرق عند ذلك جبينك و تتابع أنينك و ثبت يقينك و طمحت جفونك و صدقت ظنونك و تلجلج لسانك و بكى إخوانك و قيل لك هذا ابنك فلان و هذا أخوك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 294فلان منعت من الكلام فلا تنطق و ختم على لسانك فلا ينطبق ثم حل بك القضاء و انتزعت روحك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك إخوانك و أحضرت أكفانك فغسلوك و كفنوك ثم حملوك فدفنوك فانقطع عوادك و استراح حسادك و انصرف أك إلى مالك و بقيت مرتهنا بأعمالك. و قال بعض الزهاد لبعض الملوك إن أحق الناس بذم الدنيا و قلاها من بسط له فيها و أعطي حاجته منها لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتجتاحه و على جمعه فتفرقه أو تأتي على سلطانه فتهدمه من القواعد أو تدب إلى جسمه فتسقمه أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه فالدنيا الأحق بالذم و هي الآخذة ما تعطي الراجعة فيما تهب فبينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره و بينا هي تبكي له إذ أبكت عليه و بينا هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطت كفها إليه بالاسترجاع و الاسترداد تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم و تعفره في التراب غدا سواء عليها ذهاب من ذهب و بقاء من بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفا و ترضى بكل من كل بدلا. و كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة و إنما أنزل إليها عقوبة فاحذرها فإن الزاد منها ربحها و الغنى منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها و تفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه و هو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحمي قليلا مخافة ما يكرهه طويلا و يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدنيا الغدارة المكارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها و فتنت بغرورها و تحلت بآمالها و(20/166)
تشرفت لخطابها فأصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها العيون إليها ناظرة و القلوب عليها والهة و النفوس لها عاشقة و هي لأزواجها كلهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر و لا الآخر بالأول مزدجر و لا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر فمن عاشق لها قد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 295ظفر منها بحاجته فاغتر و طغي و نسي المعاد و شغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت ندامته و كثرت حسرته و اجتمعت عليه سكرات الموت بألمه و حسرات الفوت بغصته و من راغب فيها لم يدرك منها ما طلب و لم يرح نفسه من التعب خرمنها بغير زاد و قدم على غير مهاد فاحذرها ثم احذرها و كن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه و السار منها لأهلها غار و النافع منها في غد ضار قد وصل الرخاء منها بالبلاء و جعل البقاء فيها للفناء فسرورها مشوب بالأحزان و نعيمها مكدر بالأشجان لا يرجع ما ولى منها و أدبر و لا يدرى ما هو آت فينتظر أمانيها كاذبة و آمالها باطلة و صفوها كدر و عيشها نكد و الإنسان فيها على خطر إن عقل و نظر و هو من النعماء على غرر و من البلاء على حذر فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا و لم يضرب لها مثلا لكانت هي نفسها قد أيقظت النائم و نبهت الغافل فكيف و قد جاء من الله عنها زاجر و بتصاريفها واعظ فما لها عند الله قدر و لا نظر إليها منذ خلقها و لقد عرضت على نبيك محمد ص بمفاتيحها و خزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضعه مليكه زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا و بسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها و ينسى ما صنع الله تعالى بمحمد ص من شده الحجر على بطنه و(20/167)
قد جاءت الرواية عنه عن ربه سبحانه أنه قال لموسى إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته و إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و إن شئت اقتديت بصاحب الروح و الكلمة عيسى كان يقول إدامي الجوع و شعاري الخوف و لباسي الصوف و صلائي في الشتاء مشارق الشمس و سراجي القمر و وسادي الحجر و دابتي رجلاي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 296و فاكهتي و طعامي ما أنبتت الأرض أبيت و ليس لي شي ء و ليس على الأرض أحد أغنى منو في بعض الكتب القديمة أن الله تعالى لما بعث موسى و هارون ع إلى فرعون قال لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس ينطق و لا يطرف و لا يتنفس إلا بإذني و لا يعجبكما ما متع به منها فإن ذلك زهرة الحياة الدنيا و زينة المترفين و لو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عما وهبتما لفعلت و لكني أرغب بكما عن ذلك و أزوي ذلك عنكما و كذلك أفعل بأوليائي إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة و إني لأجنبهم حب المقام فيها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العر و ما ذاك لهوانهم علي و لكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفورا إنما يتزين لي أوليائي بالذل و الخضوع و الخوف و إن التقوى لتثبت في قلوبهم فتظهر على وجوههم فهي ثيابهم التي يلبسونها و دثارهم الذي يظهرون و ضميرهم الذي يستشعرون و نجاتهم التي بها يفوزون و رجاؤهم الذي إياه يأملون و مجدهم الذي به يفتخرون و سيماهم التي بها يعرفون فإذا لقيهم أحدكما فليخفض لهم جناحه و ليذلل لهم قلبه و لسانه و ليعلم أنه من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ثم أنا الثائر به يوم القيامة(20/168)
و من كلام بعض الحكماء الأيام سهام و الناس أغراض و الدهر يرميك كل يوم بسهامه و يتخرمك بلياليه و أيامه حتى يستغرق جميع أجزائك و يصمي جميع أبعاضك فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك و سرعة الليالي في بدنك و لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك و استثقلت ممر الساعات بك و لكن تدبير الله تعالى فوق النظر و الاعتبار. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 297و قال بعض الحكماء و قد استوصف الدنيا و قدر بقائها الدنيا وقتك الذي يرجع إليه طرفك لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه و ما لم يأت فلا علم لك به الدهر يوم مقبل تنعاه ليلته و تطويه ساعاته و أحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير و النقصان و الدهر موكل بتشتيت الجماعات و انخرام الشمل و تنقل الدول و الأمل طويل و العمر قصير و إلى الله تصير الأمور. و قال بعض الفضلاء الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء و تخلف في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة و هي سائرة سيرا عنيفا و مرتحلة ارتحالا سريعا و لكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها و إنما يحس بذلك بعد انقضائها و مثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة و ساكن في الظاهر لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل بالبصيرة الباطنة(20/169)
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 374298إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ وَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ وَ حِيَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِذيادة أي دفعا ذدته عن كذا أي دفعته و رددته و حياشة مصدر حشت الصيد بضم الحاء أحوشه إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة و كذلك أحشت الصيد و أحوشته و قد احتوش القوم الصيد إذا نفره بعضهم إلى بعض. و هذا هو مذهب أصحابنا إن الله تعالى لما كلف العباد التكاليف الشاقة و قد كان يمكنه أن يجعلها غير شاقة عليهم بأن يزيد في قدرهم وجب أن يكون في مقابلة تلك التكاليف ثواب لأن إلزام المشاق كإنزال المشاق فكما يتضمن ذلك عوضا وجب أن يتضمن هذا ثوابا و لا بد أن يكون في مقابلة فعل القبيح عقاب و إلا كان سبحانه ممكنا الإنسان من القبيح مغريا له بفعله إذ الطبع البشري يهوى العاجل و لا يحفل بالذم و لا يكون القبيح قبيحا حينئذ في العقل فلا بد من العقاب ليقع الانزجار
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 375299يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ وَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى سُكَّانُهَا وَ عُمَّارُهَا شُّ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ وَ إِلَيْهِمْ تَأْوِي الْخَطِيئَةُ يَرُدُّونَ مَنْ شَذَّ عَنْهَا فِيهَا وَ يَسُوقُونَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَيْهَا يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً أَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ وَ قَدْ فَعَلَ وَ نَحْنُ نَسْتَقِيلُ اللَّهَ عَثْرَةَ الْغَفْلَةِ(20/170)