و منها قوله و حب الإطراء ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم فجعل يصدقه و يطريه و يستحسن قوله فقال المأمون يا محمد أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة لي عليك و تطريني بما لست أحب أن أطري به و تستخذي لي في المقام الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي و محتجا علي و لو شئت أن أقسر الأمور بفضل بيان و طول لسان و أغتصب الحجة بقوة الخلافة و أبهة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 115لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة و دفع الشبهة و إن أن الملوك عقلا و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير. و أثنى رجل على رجل فقال الحمد لله الذي سترني عنك و كان بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان ليسألك الله عن حسن ظنك. و منها قوله و إياك و المن قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى و كان يقال المن محبة للنفس مفسدة للصنع. و منها نهيه إياه عن التزيد في فعله قال ع إنه يذهب بنور الحق و ذلك لأنه محض الكذب مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل فيدعي في المجالس و المحافل أنه أسدى عشرة و إذا خالط الحق الكذب أذهب نوره. و منها نهيه إياه عن خلف الوعد قد مدح الله نبيا من الأنبياء و هو إسماعيل بن إبراهيم ع بصدق الوعد و كان يقال وعد الكريم نقد و تعجيل و وعد اللئيم مطل و تعطيل و كتب بعض الكتاب و حق لمن أزهر بقول أن يثمر بفعل و قال أبو مقاتل الضرير قلت لأعرابي قد أكثر الناس في المواعيد فما قولك فيها فقال بئس الشي ء الوعد مشغلة للقلب الفارغ متعبة للبدن الخافض خيره غائب و شره حاضر و في الحديث المرفوع عدة المؤمن كأخذ باليد(18/103)
فأما أمير المؤمنين ع فقال إنه يوجب المقت و استشهد عليه بالآية و المقت البغض. و منها نهيه عن العجلة و كان يقال أصاب متثبت أو كاد و أخطأ عجل أو كاد و في المثل رب عجلة تهب ريثا و ذمها الله تعالى فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص 116و منها نهيه عن التساقط في الشي ء الممكن عند حضوره و هذا عبارة عن النهي عن الحرص و الجشع قال الشنفري و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
و منها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت كان يقال من لاج الله فقد جعله خصما و من كان الله خصمه فهو مخصوم قال الغزي
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك معكوس
و منها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت أي وضحت و انكشفت و يروى و استوضحت فعل ما لم يسم فاعله و الوهن فيها إهمالها و ترك انتهاز الفرصة فيها قال الشاعر
فإذا أمكنت فبادر إليها حذرا من تعذر الإمكان
و منها نهيه عن الاستئثار و هذا هو الخلق النبوي غنم رسول الله ص غنائم خيبر و كانت مل ء الأرض نعما فلما ركب راحلته و سار تبعه الناس يطلبون الغنائم و قسمها و هو ساكت لا يكلمهم و قد أكثروا عليه إلحاحا و سؤالا فمر بشجرة فخطفت رداءه فالتفت فقال ردوا علي ردائي فو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني بخيلا و لا جبانا و نزل و قسم ذلك المال عن آخره عليهم كله لم يأخذ لنفسه منه وبرة. و منها نهيه له عن التغابي و صورة ذلك أن الأمير يومئ إليه أن فلانا من خاصته يفعل كذا و يفعل كذا من الأمور المنكرة و يرتكبها سرا فيتغابى عنه و يتغافل نهاه ع عن ذلك و قال إنك مأخوذ منك لغيرك أي معاقب تقول اللهم خذ لي من فلان بحقي أي اللهم انتقم لي منه. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 117و منها نهيه إياه عن الغضب و عن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه قد جاء في الخبر المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان(18/104)
فإذا كان قد نهي أن يقضي القاضي و هو غضبان على غير صاحب الخصومة فبالأولى أن ينهى الأمير عن أن يسطو على إنسان و هو غضبان عليه. و كان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه و نصبه لهذا المعنى يقف على رأس الملك يوم جلوسه فإذا غضب على إنسان و أمر به قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده و قال له إنما أنت بشر فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء
وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ وَ هُوَ آخِرُهُ وَ أَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ أَنْ يُوَفِّقَنِي وَ إِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ وَ جَمِيلِ الْأَثَرِ فِي الْبِلَادِ وَ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَ تَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ وَ أَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَ الشَّهَادَةِ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ وَ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
روي كل رغيبة و الرغيبة ما يرغب فيه فأما الرغبة فمصدر رغب في كذا كأنه قال القادر على إعطاء كل سؤال أي إعطاء كل سائل ما سأله. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 118و معنى قوله من الإقامة على العذر أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على الاجتهاد و بذل الوسع في الطاعة ولك لأنه إذا بذل جهده فقد أعذر ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق و لم يفسر اجتهاده في رضا الخالق لأنه معلوم فقال هو حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد. فإن قلت فقوله و تمام النعمة على ما ذا تعطفه قلت هو معطوف على ما من قوله لما فيه كأنه قال أسأل الله توفيقي لذا و لتمام النعمة أي و لتمام نعمته علي و تضاعف كرامته لدي و توفيقه لهما هو توفيقه للأعمال الصالحة التي يستوجبهما بها
فصل في ذكر بعض وصايا العرب(18/105)
و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها أولادهم و رهطهم فيها آداب حسان و كلام فصيح و هي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا و وصاياه المودعة فيه و إن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل و أعلى من أن يناسبه كلام لأنه قبس من نور الكلام الإلهي و فرع من دوحة المنطق النبوي. روى ابن الكلبي قال لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس و كان لأخيه الخزرج خمسة قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت و لا ولد لك إلا مالك فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك و إن كان الخزرج ذا عدد و ليس لمالك ولد فلعل الذي استخرج شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 119العذق من الجريمة و النار من الوثيمة أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا و كلنا إلى الموت يا مالك المنية و لا الدنية و العتاب قبل العقاب و التجلد لا التبلد و اعلم أن قبر خير من الفقر و من لم يعط قاعدا حرم قائما و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف و ذهاب البصر خير من كثير من النظر و من كرم الكريم الدفع عن الحريم و من قل ذل و خير الغنى القناعة و شر الفقر الخضوع الدهر صرفان صرف رخاء و صرف بلاء و اليوم يومان يوم لك و يوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامة لمن ليست له إقامة و حياك ربك. و أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال يا بني قد أتت علي مائة و ستون سنة ما صافحت يميني يمين غادر و لا قنعت لنفسي بخلة فاجر و لا صبوت بابنة عم و لا كنة و لا بحت لصديق بسر و لا طرحت عن مومسة قناعا و لا بقي على دين عيسى ابن مريم و قد روي على دين شعيب من العرب غيري و غير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة فموتوا على شريعتي و احفظوا علي وصيتي و إلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم و يصلح لكم حالكم و إياكم و معصيته فيحل بكم الدمار و يوحش منكم الديار كونوا جميعا و لا تفرقوا فتكنوا شيعا و(18/106)
بزوا قبل أن تبزوا فموت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 120في عز خير من حياة في ذل و عجز و كل ما هو كائن كائن و كل جمع إلى تباين و الدهر صرفان صرف بلاء و صرف رخاء و اليوم يومان يوم حبرة و يوم عبرة و الناس رجلان رجل لك و رجل عليك زوجوا النساء الأكفاء و إلا فانتظروا بهن القضاء و ليكن يب طيبهم الماء و إياكم و الورهاء فإنها أدوأ الداء و إن ولدها إلى أفن يكون لا راحة لقاطع القرابة و إذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم و آفة العدد اختلاف الكلمة و التفضل بالحسنة يقي السيئة و المكافأة بالسيئة دخول فيها و عمل السوء يزيل النعماء و قطيعة الرحم تورث الهم و انتهاك الحرمة يزيل النعمة و عقوق الوالدين يعقب النكد و يخرب البلد و يمحق العدد و الإسراف في النصيحة هو الفضيحة و الحقد منع الرفد و لزوم الخطيئة يعقب البلية و سوء الدعة يقطع أسباب المنفعة و الضغائن تدعو إلى التباين يا بني إني قد أكلت مع أقوام و شربت فذهبوا و غبرت و كأني بهم قد لحقت ثم قال
أكلت شبابي فأفنيته و أبليت بعد دهور دهوراثلاثة أهلين صاحبتهم فبادروا و أصبحت شيخا كبيراقليل الطعام عسير القيام قد ترك الدهر خطوي قصيراأبيت أراعي نجوم السماء أقلب أمري بطونا ظهورا(18/107)