ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أنفسكم و لتركتم أموالكم لا حارس لها و لا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه و لكن غاب عن قلوبكم ذكر الآخرة و حضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم و صرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها ما لكم لا تحابون و لا تناصحون في أموركم و أنتم إخوان على دين واحد ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم و لو اجتمعتم على البر لتحاببتم ما لكم لا تناصحون في أموركم ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم و لو كنتم توقنون بأمر الآخرة كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة فإن قلت حب العاجلة غالب فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للأجل منها ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا و تحزنون على اليسير منها بفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم و يظهر على ألسنتكم و تسمونها المصائب و تقيمون فيها المآتم و عامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوههم و لا تتغير حال بهم يلقى بعضهم بعضا بالمسرة و يكره كل منكم أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل و بنيتم مراعيكم على الدمن و تصافيتم على رفض الأجل أراحني الله منكم و ألحقني بمن أحب رؤيته. و قال حكيم لأصحابه ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 289و قيل في معناهأرى رجالا بأدنى الدين قد قنعواو لا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الديو في الحديث المرفوع لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب(20/161)


و قال الحسن رحمه الله أدركت أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها ثم ركضوا خفافا. و قال أيضا من نافسك في دينك فنافسه و من نافسك في دنياك فألقها في نحره. و قال الفضيل طالت فكرتي في هذه الآية إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً. و من كلام بعض الحكماء لن تصبح في شي ء من الدنيا إلا و قد كان له أهل قبلك و يكون له أهل من بعدك و ليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة و غداء يوم فلا تهلك نفسك في أكة و صم عن الدنيا و أفطر على الآخرة فإن رأس مال الدنيا الهوى و ربحها النار. و قيل لبعض الرهبان كيف ترى الدهر قال يخلق الأبدان و يجدد الآمال و يقرب المنية و يباعد الأمنية قيل فما حال أهله قال من ظفر به تعب و من فاته اكتأب. و من هذا المعنى قول الشاعر
و من يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها(20/162)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 290إذا أدبرت كانت على المرء حسرة و إن أقبلت كانت كثيرا همومهو قال بعض الحكماء كانت الدنيا و لم أكن فيها و تذهب الدنيا و لا أكون فيها و لست أسكن إليها فإن عيشها نكد و صفوها كدر و أهلها منها على وجل إما بنعمة زائلة أو ببلية نازلة أو ميتة قاضية. و قال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحدا ما يستحق إما أن تزيد له و إما أن تنقص. و قال سفيان الثوري أ ما ترون النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها. و قال يحيى بن معاذ الدنيا حانوت الشيطان فلا تسرق من حانوته شيئا فإنه يجي ء في طلبك حتى يأخذك. و قال الفضيل لو كانت الدنيا من ذهب يفنى و الآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا ن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى فكيف و قد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى. و قال بعضهم ما أصبح أحد في الدنيا إلا و هو ضيف و لا شبهة في أن الضيف مرتحل و ما أصبح ذو مال فيها إلا و ماله عارية عنده و لا ريب أن العارية مردودة. و مثل هذا قول الشاعر
و ما المال و الأهلون إلا وديعة و لا بد يوما أن ترد الودائع
و قيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت فأنشد
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 291و زار رابعة العدوية أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت اسكتوا عن ذكرها و كفوا فلو لا موقعها في قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها إن من أحب شيئا أكثر من ذكره. و قال مطرف بن الشخير لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك و لين رياشهم لكن انظروا إلى سرعة ظعنهم و سوء منقلبهم. قال الشاعر
أرى طالب الدنيا و إن طال عمره و نال من الدنيا سرورا و أنعماكبان بنى بنيانه فأقامه فلما استوى ما قد بناه تهدما
و قال أبو العتاهية(20/163)


تعالى الله يا سلم بن عمرو أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تساق إليك عفوا أ ليس مصير ذلك إلى الزوال و ما دنياك إلا مثل في ء أظلك ثم آذن بانتقو قال بعضهم الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب. و قال أبو أمامة الباهلي لما بعث الله محمدا ص أتت إبليس جنوده و قالوا قد بعث نبي و جدت ملة و أمة فقال كيف حالهم أ يحبون الدنيا قالوا نعم قال إن كانوا يحبونها فلا أبالي ألا يعبدوا الأصنام فإنما أغدو عليهم و أروح بثلاث أخذ المال من غير حقه و إنفاقه في غير حقه و إمساكه عن حقه و الشر كله لهذه الثلاث تبع. و كان مالك بن دينار يقول اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 292و قال أبو سليمان الرازي إذا كانت اخرة في القلب جاءت الدنيا فزاحمتها و إذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة لأن الآخرة كريمة و الدنيا لئيمة. و قال مالك بن دينار بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك و بقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك و هذا مقتبس
من قول أمير المؤمنين ع الدنيا و الآخرة ضرتان فبقدر ما ترضي إحداهما تسخط الأخرى
و قال الشاعر
يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم إن التي تخطب غدارة قريبة العرس من المأتمو قالوا لو وصفت الدنيا نفسها لما قالت أحسن من قول أبي نواس فيها
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق(20/164)


و من كلام الشافعي يعظ أخا له يا أخي إن الدنيا دحض مزلة و دار مذلة عمرانها إلى الخراب سائر و ساكنها إلى القبور زائر شملها على الفرقة موقوف و غناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار و الإعسار فيها يسار فافزع إلى الله و ارض برزق الله و لا تستسلف من دار بقائك في دار فنائك فإن عيشك في ء زائل و جدار مائل أكثر من عملك و أقصر من أملك. و قال إبراهيم بن أدهم لرجل أ درهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة فقال دينار في اليقظة فقال كذبت إن الذي تحبه في الدنيا فكأنك تحبه في المنام و الذي تحبه في الآخرة فكأنك تحبه ف اليقظة. و قال بعض الحكماء من فرح قلبه بشي ء من الدنيا فقد أخطأ الحكمة و من شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 293جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله و من غلب علمه هواه فهو الغالب. و قال بعضهم الدنيا تبغض إلينا نفسها و نحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا. و قال بع الدنيا دار خراب و أخرب منها قلب من يعمرها و الجنة دار عمران و أعمر منها قلب من يطلبها. و قال يحيى بن معاذ العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه و بنى قبره قبل أن يدخله و أرضى خالقه قبل أن يلقاه. و قال بعضهم من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن. و من كلام بعض فصحاء الزهاد أيها الناس اعملوا في مهل و كونوا من الله على وجل و لا تغتروا بالأمل و نسيان الأجل و لا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة غرارة خداعة قد تزخرفت لكم بغرورها و فتنتكم بأمانيها و تزينت لخطابها فأضحت كالعروس المتجلية العيون إليها ناظرة و القلوب عليها عاكفة و النفوس لها عاشقة فكم من عاشق لها قتلت و مطمئن إليها خذلت فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثرت بوائقها و ذمها خالقها جديدها يبلى و ملكها يفنى و عزيزها يذل و كثيرها يقل و حيها يموت و خيرها يفوت فاستيقظوا من غفلتكم و انتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل و مدنف ثقيل فهل على الدواء(20/165)

139 / 150
ع
En
A+
A-