سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض فحسبك مني ما تجن الجوانح كأن لم يمت حي سواك و لم تقم على أحد إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المراثي بوصفها لقد حسنت من قبل فيك المدائح فما أنا من رزء و إن جل جازع و لا بسرور بعد موتك فا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 299198لَا تَصْحَبِ الْمَائِقَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ وَ يَوَدُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُالمائق الشديد الحمق و الموق شدة الحمق و إنما يزين لك فعله لأنه يعتقد فعله صوابا بحمقه فيزينه لك كما يزين العاقل لصاحبه فعله لاعتقاد كونه صوابا و لكن هذا صواب في نفس الأمر و ذلك صواب في اعتقاد المائق لا في نفس الأمر و أما كونه يود أن تكون مثله فليس معناه أنه يود أن تكون أحمق مثله و كيف و هو لا يعلم من نفسه أنه أحمق و لو علم أنه أحمق لما كان أحمق و إنما معناه أنه لحبه لك و صحبته إياك يود أن تكون مثله لأن كل أحد يود أن يكون صديقه مثل نفسه في أخلاقه و أفعاله إذ كل أحد يعتقد صواب أفعاله و طهارة أخلاقه و لا يشعر بعيب نفسه لأنه يهوى نفسه فعيب نفسه مطوى مستور عن نفسه كما تخفى عن العاشق عيوب المعشوق(20/116)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 300199وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلشَّمْسِهكذا تقول العرب بينهما مسيرة يوم بالهاء و لا يقولون مسير يوم لأن المسير المصدر و المسيرة الاسم. و هذا الجواب تسميه الحكماء جوابا إقناعيا لأن السائل أراد أن يذكر له كمية المسافة مفصلة نحو أن يقول بينهما ألف فرسخ أو أكثر أو أقل فعدل ع عن ذلك و أجابه بغيره و هو جواب صحيح لا ريب فيه لكنه غير شاف لغليل السائل و تحته غرض صحيح و ذلك لأنه سأله بحضور العامة تحت المنبر فلو قال له بينهما ألف فرسخ مثلا لكان للسائل أن يطالبه بالدلالة على ذلك و الدلالة على ذلك يشق حصولها على البديهة و لو حصلت لشق عليه أن يوصلها إلى فهم السائل و لو فهمها السائل لما فهمتها العامة الحاضرون و لصار فيها قول و خلاف و كانت تكون فتنة أو شبيها بالفتنة فعدل إلى جواب صحيح إجمالي أسكت السائل به و قنع به السامعون أيضا و استحسنوه و هذا من نتائج حكمته ع(20/117)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 301200أَصْدِقَاؤُكَ ثَلَاثَةٌ وَ أَعْدَاؤُكَ ثَلَاثَةٌ فَأَصْدِقَاؤُكَ صَدِيقُكَ وَ صَدِيقُ صَدِيقِكَ وَ عَدُوُّ عَدُوِّكَ وَ أَعْدَاؤُكَ عَدُوُّكَ وَ عَدُوُّ صَدِيقِكَ وَ صَدِيقُ عَدُوِّكَقد تقدم القول في هذا المعنى و الأصل في هذا أن صديقك جار مجرى نفسك فاحكم عليه بما تحكم به على نفسك و عدوك ضدك فاحكم عليه بما تحكم به على الضد فكما أن من عاداك عدو لك و كذلك من عادى صديقك عدو لك و كذلك من صادق صديقك فكأنما صادق نفسك فكان صديقا لك أيضا و أما عدو عدوك فضد ضدك و ضد ضدك ملائم لك لأنك أنت ضد لذلك الضد فقد اشتركتما في ضديه ذلك الشخص فكنتما متناسبين و أما من صادق عدوك فقد ماثل ضدك فكان ضدا لك أيضا و مثل ذلك بياض مخصوص يعادي سوادا مخصوصا و يضاده. و هناك بياض ثان هو مثل البياض الأول و صديقه و هناك بياض ثالث مثل البياض الثاني فيكون أيضا مثل البياض الأول و صديقه و هناك بياض شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 201رابع تأخذه باعتبار ضدا للسواد المخصوص المفروض فإنه يكون مماثلا و صديقا للبياض الأول لأنه عدو عدوه ثم نفرض سوادا ثانيا مضادا للبياض الثاني فهو عدو للبياالأول لأنه عدو صديقه ثم نفرض سوادا ثالثا هو مماثل السواد المخصوص المفروض فإنه يكون ضدا للبياض المفروض المخصوص لأنه مثل ضده و إن مثلت ذلك بالحروف كان أظهر و أكشف(20/118)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 302202وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ رَآهُ يَسْعَى عَلَى عَدُوٍّ لَهُ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ إِنَّمَا أَنْتَ كَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ لِيَقْتُلَ رِدْفَهُهذا يختلف باختلاف حال الساعي فإنه إن كان يضر نفسه أولا ثم يضر عدوه تبعا لإضراره بنفسه كان كما قال أمير المؤمنين ع كالطاعن نفسه ليقتل ردفه و الردف الرجل الذي ترتدفه خلفك على فرس أو ناقة أو غيرهما و فاعل ذلك يكون أسفه الخلق و أقلهم عقلا لأنه يبدأ بقتل نفسه و إن كان يضر عدوه أولا يحصل في ضمن إضراره بعدوه إضراره بنفسه فليس يكون مثال أمير المؤمنين ع منطبقا على ذلك و لكن يكون كقولي في غزل من قصيدة لي
إن ترم قلبي تصم نفسك إنه لك موطن تأوي إليه و منزل
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 303203مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَ أَقَلَّ الِاعْتِبَارَما أوجز هذه الكلمة و ما أعظم فائدتها و لا ريب أن العبر كثيرة جدا بل كل شي ء في الوجود ففيه عبرة و لا ريب أن المعتبرين بها قليلون و أن الناس قد غلب عليهم الجهل و الهوى و أرداهم حب الدنيا و أسكرهم خمرها و إن اليقين في الأصل ضعيف عندهم و لو لا ضعفه لكانت أحولهم غير هذه الأحوال
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 304204مَنْ بَالَغَ فِي الْخُصُومَةِ أَثِمَ وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظَلَمَ وَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَنْ خَاصَمَهذا مثل قوله ع في موضع آخر الغالب بالشر مغلوب(20/119)


و كان يقال ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما. و قد نهى العلماء عن الجدل و الخصومة في الكلام و الفقه و قالوا إنهما مظنة المباهاة و طلب الرئاسة و الغلبة و المجادل يكره أن يقهره خصمه فلا يستطيع أن يتقي الله و هذا هو كلام أمير المؤمنين ع بعينه. و أما الخصومة في غير العلم كمنازعة الناس بعضهم بعضا في أمورهم الدنياوية فقد جاء في ذمها و النهي عنها شي ء كثير و قد ذكرنا منه فيما تقدم قولا كافيا على أن منهم من مدح الجهل و الشر في موضعهما. و قال الأحنف ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا. و قال بعض الحكماء لا يخرجن أحد من بيته إلا وقد أخذ في حجزته قيراطين من جهل فإن الجاهل لا يدفعه إلا الجهل و قالوا الجاهل من لا جاهل له. و قال الشاعر(20/120)

130 / 150
ع
En
A+
A-