قد جاء في الحذر من كيد العدو و النهي عن التفريط في الرأي السكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة و كذا في النهي عن الغدر و النهي عن طلب تأويلات العهود و فسخها بغير الحق. فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر أشرف فيه على العطب و نجا بعد لأي فكتب إليه أبوه أتاني يا بني من خبر تفريطك ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد لأني لم أرج قط ألا تموت و قد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم و التيقظ. و روى ابن الكلبي أن قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر و من معه بجفر الهباءة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 110خرج حتى لحق بالنمر بن قا و قال لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم فقال يا معاشر النمر أنا قيس بن زهير غريب حريب طريد شريد موتور فانظروا لي امرأة قد أدبها الغني و أذلها الفقر فزوجوه بامرأة منهم فقال لهم إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي أنا فخور غيور أنف و لست أفخر حتى أبتلى و لا أغار حتى أرى و لا آنف حتى أظلم فرضوا أخلاقه فأقام فيهم حتى ولد له ثم أراد أن يتحول عنهم فقال يا معشر النمر إن لكم حقا علي في مصاهرتي فيكم و مقامي بين أظهركم و إني موصيكم بخصال آمركم بها و أنهاكم عن خصال عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة و تنال الفرصة و تسويد من لا تعابون بتسويده و الوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس و إعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة و منع ما تريدون منعه قبل الإنعام و إجارة الجار على الدهر و تنفيس البيوت عن منازل الأيامى و خلط الضيف بالعيال و أنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر و عن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي و عن البغي فإن به صرع زهير أبي و عن السرف في الدماء فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار و لا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق و أنكحوا الأيامى الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور و اعلموا أني أصبحت ظالما و مظلوما ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا و ظلمتهم بقتلي من لا ذنب له ثم رحل عنهم إلى غمار(18/98)
فتنصر بها و عف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات
إِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 111لِتَبِعَةٍ وَ لَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ وَ لَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَ لَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ وَ إِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وَ أَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ
قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا النهي عن الإسراف في الدماء و تلك وصية مبنية على شريعة الجاهلية مع حميتها و تهالكها على القتل و القتال و وصية أمير المؤمنين ع مبنية على الشريعة الإسلامية و النهي عن القتل و العدوان الذي لا يسيغه الدين و
قد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء(18/99)
قال إنه ليس شي ء أدعى إلى حلول النقم و زوال النعم و انتقال الدول من سفك الدم الحرام و إنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك فليس الأمر كما ظننت بل تضعفه بل تعدمه بالكلية. ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود و قال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة القتول و المراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود. ثم قال إن قتلت خطأ أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية و قد اختلف شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 112الفقهاء في هذه المسألة فقال أبو حنيفة و أصحابه القتل على خمسة أوجه عمد و شبه عمد و خطو ما أجري مجرى الخطإ و قتل بسبب. فالعمد ما تعمد به ضرب الإنسان بسلاح أو ما يجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب و ليطة القصب و المروءة المحددة و النار و موجب ذلك المأثم و القود إلا أن يعفو الأولياء و لا كفارة فيه. و شبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح و لا أجري مجرى السلاح كالحجر العظيم و الخشبة العظيمة و موجب ذلك المأثم و الكفارة و لا قود فيه و فيه الدية مغلظة على العاقلة. و الخطأ على وجهين خطأ في القصد و هو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي و خطأ في الفعل و هو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا و موجب النوعين جميعا الكفارة و الدية على العاقلة و لا مأثم فيه. و ما أجري مجرى الخطإ مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله فحكمه حكم الخطإ و أما القتل بسبب فحافر البئر و واضع الحجر في غير ملكه و موجبه إذا تلف فيه إنسان الدية على العاقلة و لا كفارة فيه. فهذا قول أبي حنيفة و من تابعه و قد خالفه صاحباه أبو يوسف و محمد في شبه العمد و قالا إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد قال و شبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا كالعصا الصغيرة و السوط و بهذا القول قال الشافعي. و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أن المؤدب من الولاة إذا تلف تحت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 113يده إنسان في التأديب فعليه(18/100)
الدية و قال لي قوم من فقهاء الإمامية أن مذهبنا أن لا دية عليه و هو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين عوَ إِيَّاكَ وَ الْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَ الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ الْإِطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ وَ إِيَّاكَ وَ الْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَ التَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ وَ الْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ وَ إِيَّاكَ وَ الْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ وَ إِيَّاكَ وَ الِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَ التَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ وَ يُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ وَ احْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَ تَأْخِيرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 114وَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ(18/101)
تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ نْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا ص أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ لِكَيْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا
قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها منها قوله ع إياك و ما يعجبك من نفسك و الثقة بما يعجبك منها
قد ورد في الخبر ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
و في الخبر أيضا لا وحشة أشد من العجب
و في الخبر الناس لآدم و آدم من تراب فما لابن آدم و الفخر و العجب
و في الخبر الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة
و في الخبر و قد رأى أبا دجانة يتبختر إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين(18/102)