قد اختلف الناس في المعني بهذا الكلام و من هو هذا الأخ المشار إليه فقال قوم هو رسول الله ص و استبعده قوم لقوله و كان ضعيفا مستضعفا فإن النبي ص لا يقال في صفاته مثل هذه الكلمة شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 184و إن أمكن تأويلها على لين كلامه و سماحة أخلاقه إلانها غير لائقة به ع. و قال قوم هو أبو ذر الغفاري و استبعده قوم لقوله فإن جاء الجد فهو ليث عاد و صل واد فإن أبا ذر لم يكن من الموصوفين بالشجاعة و المعروفين بالبسالة. و قال قوم هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود و كان من شيعة علي ع المخلصين و كان شجاعا مجاهدا حسن الطريقة و قد ورد في فضله حديث صحيح مرفوع. و قال قوم أنه ليس بإشارة إلى أخ معين و لكنه كلام خارج مخرج المثل و عادة العرب جارية بمثل ذلك مثل قولهم في الشعر فقلت لصاحبي و يا صاحبي و هذا عندي أقوى الوجوه
نبذ من الأقوال الحكمية في حمد القناعة و قلة الأكل
و قد مضى القول في صغر الدنيا في عين أهل التحقيق فأما سلطان البطن و مدح الإنسان بأنه لا يكثر من الأكل إذا وجد أكلا و لا يشتهي من الأكل ما لا يجده فقد قال الناس فيه فأكثروا. قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب
طاوي المصير على العزاء منصلت بالقوم ليلة لا ماء و لا شجرتكفيه فلذة لحم إن ألم بها من الشواء و يروي شربه الغمرو لا يباري لما في القدر يرقبه و لا تراه أمام القوم يفتقر شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 185لا يغمز الساق من أين و لا وصب و لا يعض على شرسوفه الصفو قال الشنفري(20/106)


و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت خيوطة ماري تغار و تفتل و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل و ما ذاك إلا بسطة عن تفضل عليهم و كان الأفضل المو قال بعضهم لابنه يا بني عود نفسك الأثرة و مجاهدة الهوى و الشهوة و لا تنهش نهش السباع و لا تقضم قضم البراذين و لا تدمن الأكل إدمان النعاج و لا تلقم لقم الجمال إن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة و لا سبعا و احذر سرعة الكظة و داء البطنة فقد قال الحكيم إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمنى. و قال الأعشى
و البطنة يوما تسفه الأحلاما(20/107)


و اعلم أن الشبع داعية البشم و البشم داعية السقم و السقم داعية الموت و من مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة و هو مع هذا قاتل نفسه و قاتل نفسه ألوم من قاتل غيره يا بني و الله ما أدى حق السجود و الركوع ذو كظة و لا خشع لله ذو بطنة و الصوم مصحة و لربما طالت أعمار الهند و صحت أبدان العرب و لله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم و أن الداء إدخال الطعام في أثر الطعام يا بني لم صفت أذهان الأعراب و صحت أذهان الرهبان مع طول الإقامة في الصوامع حتى لم تعرف وجع المفاصل و لا الأورام إلا لقلة الرزء و وقاحة الأكل و كيف لا ترغب في تدبير يجمع لك بين صحة البدن و ذكاء الذهن و صلاح المعاد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 186و القرب و عيش الملائكة يا بني لم صار الضب أطول شي ء ذماء إلا لأنه يتبلغ بالنسيم و لم زعم رسول الله ص أن الصوم وجاء إلا ليجعله حجابا دون الشهوات فافهم تب الله و رسوله فإنهما لا يقصدان إلا مثلك يا بني إني قد بلغت تسعين عاما ما نقص لي سن و لا انتشر لي عصب و لا عرفت دنين أنف و لا سيلان عين و لا تقطير بول ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة و إن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم. و كان يقال البطنة تذهب الفطنة. و قال عمرو بن العاص لأصحابه يوم حكم الحكمان أكثروا لأبي موسى من الطعام الطيب فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها و ما مضى عزم رجل بات بطينا. و كان يقال أقلل طعاما تحمد مناما و دعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء فقال ما في فضل فقال إني أحب الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل فقال يا أمير المؤمنين عندي مستزاد و لكني أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين. و كان يقال مسكين ابن آدم أسير الجوع صريع الشبع. و سأل عبد الملك أبا الزعيرعة فقال هل أتخمت قط قال لا قال و كيف قال لأنا إذا طبخنا أنضجنا و إذا مضغنا دققنا و(20/108)


لا نكظ المعدة و لا نخليها. و كان يقال من المروءة أن يترك الإنسان الطعام و هو بعد يشتهيه. و قال الشاعر
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه و يكفيك سوآت الأمور اجتنابها
و قال عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي كان عمي يقول لي لا تخرج يا بني من منزلك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 187حتى تأخذ حلمك يعني تتغذى فإذا أخذت حلمك فلا تزدد إليه حلما فإن الكثرة تئول إلى قلة و في الحديث المرفوع ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن بحسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه و أما إذا أبيت فثلث طعام و ثلث شراب و ثلث نفس
و روى حذيفة عن النبي ص من قل طعمه صح بطنه و صفا قلبه و من كثر طعمه سقم بطنه و قسا قلبه
و عنه ص لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام و الشراب فإن القلب يموت بهما كالزرع يموت إذا أكثر عليه الماء
و روى عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال أكلت يوما ثريدا و لحما سمينا ثم أتيت رسول الله و أنا أتجشأ فقال احبس جشأك أبا جحيفة إن أكثركم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا في الآخرة قال فما أكل أبو جحيفة بعدها مل ء بطنه إلى أن قبضه الله وأكل علي ع قليلا من تمر دقل و شرب عليه ماء و أمر يده على بطنه و قال من أدخله بطنه النار فأبعده الله ثم تمثل
فإنك مهما تعط بطنك سؤله و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
و كان ع يفطر في رمضان الذي قتل فيه عند الحسن ليلة و عند الحسين ليلة و عند عبد الله بن جعفر ليلة لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث فيقال له فيقول إنما هي ليال قلائل حتى يأتي أمر الله و أنا خميص البطن فضربه ابن ملجم لعنه الله تلك الليلة
و قال الحسن لقد أدركت أقواما ما يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه ما شبع رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا كان يأكل فإذا قارب الشبع أمسك. و أنشد المبرد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 18فإن امتلاء البطن في حسب الفتى قليل الغناء و هو في الجسم صالح(20/109)


و قال عيسى ع يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل فإنه من أكثر من الأكل أكثر من النوم و من أكثر النوم أقل الصلاة و من أقل الصلاة كتب من الغافلين
وقيل ليوسف ع ما لك لا تشبع و في يديك خزائن مصر قال إني إذا شبعت نسيت الجائعين
و قال الشاعر
و أكلة أوقعت في الهلك صاحبها كحبة القمح دقت عنق عصفورلكسرة بجريش الملح آكلها ألذ من تمرة تحشى بزنبور
و وصف لسابور ذي الأكتاف رجل من إصطخر للقضاء فاستقدمه فدعاه إلى الطعام فأخذ الملك دجاجة من بين يديه فنصفها و جعل نصفها بين يدي ذلك الرجل فأتى عليه قبل أن يفرغ الملك من أكل النصف الآخر فصرفه إلى بلده و قال إن سلفنا كانوا يقولون من شره إلى طعام الملك كان إلى أموال الرعية أشره. قيل لسميرة بن حبيب إن ابنك أكل طعاما فأتخم و كاد يموت فقال و الله لو مات منه ما صليت عليه
أنس يرفعه إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت
دخل عمر على عاصم ابنه و هو يأكل لحما فقال ما هذا قال قرمنا إليه قال أ و كلما قرمت إلى اللحم أكلته كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهي.
أبو سعيد يرفعه استعينوا بالله من الرعب
قالوا هو الشره و يقال الرعب شؤم
أنس يرفعه أصل كل داء البردة
قالوا هي التخمة و قال أبو دريد العرب تعير بكثرة الأكل و أنشد
لست بأكال كأكل العبد و لا بنوام كنوم الفهد
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 189و قال الشاعرإذا لم أزر إلا لآكل أكلة فلا رفعت كفي إلي طعامي فما أكلة إن نلتها بغنيمة و لا جوعة إن جعتها بغرام ابن عباس كان رسول الله ص يبيت طاويا ليالي ما له و لأهله عشاء و كان عامة طعامه الشعير
و قالت عائشة و الذي بعث محمدا بالحق ما كان لنا منخل و لا أكل رسول الله ص خبزا منخولا منذ بعثه الله إلى أن قبض قالوا فكيف كنتم تأكلون دقيق الشعير قالت كنا نقول أف أف
أنس ما أكل رسول الله ص رغيفا محورا إلى أن لقي ربه عز و جل(20/110)

128 / 150
ع
En
A+
A-