شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 287173لَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ مَعَ الْإِبْصَارِ فَقَدْ تَكْذِبُ الْعُيُونُ أَهْلَهَا وَ لَا يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُهذا مثل قوله تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي ليس العمى عمى العين بل عمى القلب. كذلك
قول أمير المؤمنين ع ليست الرؤية مع العيون و إنما الرؤية الحقيقية مع العقول
و قد ذهب أكابر الحكماء إلى أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات قالوا لأن حكم الحس في مظنة الغلط و طال ما كذب الحس و اعتقدنا بطريقة اعتقادات باطلة كما نرى الكبير صغيرا و الصغير كبيرا و المتحرك ساكنا و الساكن متحركا فأما العقل فإذا كان المعقول به بديهيا أو مستندا إلى مقدمات بديهية فإنه لا يقع فيه غلط أصلا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 288174بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغِرَّةِقد تقدم ذكر الدنيا و غرورها و أنها بشهواتها و لذاتها حجاب بين العبد و بين الموعظة لأن الإنسان يغتر بالعاجلة و يتوهم دوام ما هو فيه و إذا خطر بباله الموت و الفناء وعد نفسه رحمة الله تعالى و عفوه هذا إن كان ممن يعترف بالمعاد فإن كثيرا ممن يظهر القول بالمعاد هو في الحقيقة غير مستيقن له و الإخلاد إلى عفو الله تعالى و الاتكال على المغفرة مع الإقامة على المعصية غرور لا محالة و الحازم من عمل لما بعد الموت و لم يمن نفسه الأماني التي لا حقيقة لها
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 289175جَاهِلُكُمْ مُزْدَادٌ وَ عَالِمُكُمْ مُسَوِّفٌهذا قريب مما سلف يقول إن الجاهل من الناس مزداد من جهله مصر على خطيئته مسوف من توهماته و عقيدته الباطلة بالعفو عن ذنبه و ليس الأمر كما توهمه. لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً(20/101)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 290176قَطَعَ الْعِلْمُ عُذْرَ الْمُتَعَلِّلِينَ هذا أيضا قريب مما تقدم يقول قطع العلم عذر الذين يعللون أنفسهم بالباطل و يقولون إن الرب كريم رحيم فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة كما قال الشاعرقدمت على الكريم بغير زاد من الأعمال ذا ذنب عظيم و سوء الظن أن تعتد زادا إذا كان القدوم على الكريمو هذا هو التعليل بالباطل فإن الله تعالى و إن كان كريما رحيما عفوا غفورا إلا أنه صادق القول و قد توعد العصاة و قال وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ و قال لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ و يكفي في رحمته و عفوه و كرمه أن يغفر للتائب أو لمن ثوابه أكثر مما يستحقه من العقاب فالقول بالوعيد معلوم بأدلة السمع المتظاهرة المتناصرة التي قد أطنب أصحابنا في تعدادها و إيضاحها و إذا كان الشي ء معلوما فقد قطع العلم به عذر أصحاب التعلل و التمني و وجب العمل بالمعلوم و رفض ما يخالفه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 291177كُلُّ مُعَاجَلٍ يَسْأَلُ الْإِنْظَارَ وَ كُلُّ مُؤَجَّلٍ يَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِيفِقال الله سبحانه حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فهذا هو سؤال الإنظار لمن عوجل فأما من أجل فإنه يعلل نفسه بالتسويف و يقول سوف أتوب سوف أقلع عما أنا عليه فأكثرهم يخترم من غير أن يبلغ هذا الأمل و تأتيه المنية و هو على أقبح حال و أسوئها و منهم من تشمله السعادة فيتوب قبل الموت و أولئك الذين ختمت أعمالهم بخاتمة الخير و هم في العالم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود(20/102)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 292178مَا قَالَ النَّاسُ لِشَيْ ءٍ طُوبَى لَهُ إِلَّا وَ قَدْ خَبَّأَ لَهُ الدَّهْرُ يَوْمَ سَوْءقد تقدم هذا المعنى و ذكرنا فيه نكتا جيدة حميدة
نبذ من الأقوال الحكمية في تقلبات الدهر و تصرفاته
كان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير بغداد في قصره على دجلة يوما و إذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة عليها رقعة فأمر بأخذها فإذا فيها
تاه الأعيرج و استولى به البطر فقل له خير ما استعملته الحذرأحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت و لم تخف سوء ما يأتي به القدرو سالمتك الليالي فاغتررت بها و عند صفو الليالي يحدث الكدر
فما انتفع بنفسه مدة. و في المثل الدهر إذا أتى بسحواء سحسح يعقبها بنكباء زعزع و كذاك شرب العيش فيه تلون بيناه عذبا إذ تحول آجنا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 179يحيى بن خالد أعطانا الدهر فأسرف ثم مال علينا فأجحف. و قال الشاعرفيا لنعيم ساعدتنا رقابه و خاست بنا أكفاله و الروادف
إسحاق بن إبراهيم الموصلي
هي المقادير تجري في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال يوما تريش خسيس الحال ترفعه إلى السماء و يوما تخفض العاليإذا أدبر الأمر أتى الشر من حيث كان يأتي الخير. هانئ بن مسعود
إن كسرى أبى على الملك النعمان حتى سقاه أم الرقوب كل ملك و إن تصعد يوما بأناس يعود للتصويبأحيحة بن الجلاح
و ما يدري الفقير متى غناه و ما يدري الغني متى يعيل و ما تدري إذا أضربت شولا أ تلقح بعد ذلك أم تحيل و ما تدري إذا أزمعت سيرا بأي الأرض يدركك المقيآخر
فما درن الدنيا بباق لأهله و لا شرة الدنيا بضربة لازم
آخر
رب قوم غبروا من عيشهم في سرور و نعيم و غدق
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 180سكت الدهر زمانا عنهم ثم أبكاهم دما حين نطو من الشعر المنسوب إلى محمد الأمين بن زبيدة
يا نفس قد حق الحذر أين الفرار من القدركل امرئ مما يخاف و يرتجيه على خطرمن يرتشف صفو الزمان يغص يوما بالكدر(20/103)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 293181وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلَا تَسْلُكُوهُ ثُمَّ سُئِلَ ثَانِياً فَقَالَ بَحْرٌ عَمِيقٌ فَلَا تَلِجُوهُ ثُمَّ سُئِلَ ثَالِثاً فَقَالَ سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَتَكَلَّفُوهُقد جاء في الخبر المرفوع القدر سر الله في الأرض
و روي سر الله في عباده
و المراد نهي المستضعفين عن الخوض في إرادة الكائنات و في خلق أعمال العباد فإنه ربما أفضى بهم القول بالجبر لما في ذلك من الغموض و ذلك أن العامي إذا سمع قول القائل كيف يجوز أن يقع في عالمه ما يكرهه و كيف يجوز أن تغلب إرادة المخلوق إرادة الخالق. و يقول أيضا إذا علم في القدم أن زيدا يكفر فكيف لزيد أن لا يكفر و هل يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله تعالى في القدم اشتبه عليه الأمر و صار شبهة في نفسه و قوي في ظنه مذهب المجبرة فنهى ع هؤلاء عن الخوض في هذا النحو من البحث و لم ينه غيرهم من ذوي العقول الكاملة و الرياضة القوية و الملكة التامة و من له قدرة على حل الشبه و التفصي عن المشكلات. فإن قلت فإنكم تقولون إن العامي و المستضعف يجب عليهما النظر قلت نعم إلا أنه لا بد لهما من موقف بعد أعمالها ما ينتهي إليه جهدهما من النظر بحيث يرشدهما إلى الصواب و النهي إنما هو لمن يستبد من ضعفاء العامة بنفسه في النظر و لا يبحث مع غيره ليرشده
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 294182إِذَا أَرْذَلَ اللَّهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَأرذله جعله رذلا و كان يقال من علامة بغض الله تعالى للعبد أن يبغض إليه العلم. و قال الشاعر
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي و قال لأن حفظ العلم فضل و فضل الله لا يؤتيه عاصيو قال رجل لحكيم ما خير الأشياء لي قال أن تكون عالما قال فإن لم أكن قال أن تكون مثريا قال فإن لم أكن قال أن تكون شاريا قال فإن لم أكن قال فأن تكون ميتا. أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال(20/104)


إذا فاتك العلم جد بالقرى و إن فاتك المال سد بالقراع فإن فات هذا و هذا و ذاك فمت فحياتك شر المتاعو قال أيضا في المعنى بعينه
و لو لا الحجا و القرى و القراع لما فضل الآخر الأولاثلاث متى يخل منها الفتى يكن كالبهيمة أو أرذلا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 295183وَ قَالَ ع كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ وَ كَانَ يُعَظِّمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَ كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلَا يَتَشَهَّى مَا لَا يَجِدُ وَ لَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ وََانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَ نَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ وَ كَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثٌ عَادٍ وَ صِلُّ وَادٍ لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً كَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا لَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ وَ كَانَ لَا يَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ بُرْئِهِ وَ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ وَ لَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ وَ كَانَ إِنْ غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ وَ كَانَ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ وَ كَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَخَالَفَهُ فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا وَ تَنَافَسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ(20/105)

127 / 150
ع
En
A+
A-