قد تقدم القول في الحرص و الجشع و ذمهما و ذم الكادح في طلب الرزق و مدح القناعة و الاقتصار و نذكر هنا طرفا آخر من ذلك قال بعض الحكماء وجدت أطول الناس غما الحسود و أهنأهم عيشا القنوع و أصبرهم على الأذى الحريص و أخفضهم عيشا أرفضهم للدنيا و أعظمهم ندامة العالم المفرط. و قال عمر الطمع فقر و اليأس غنى و من يئس مما عند الناس استغنى عنهم. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 163و قيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك و رضاك بما يكفيك و لذلك قيل العيش ساعات تمر و خطوب تكر. و قال الشاعراقنع بعيشك ترضه و اترك هواك و أنت حرفلرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در
و قال آخر
إلى متى أنا في حل و ترحال من طول سعي و إدبار و إقبال و نازح الدار لا أنفك مغتربا عن الأحبة لا يدرون ما حالي بمشرق الأرض طورا ثم مغربها لا يخطر الموت من حرص على بالي و لو قنعت أتاني الرزق في دعة إن القنوع الغنى لا كثرة المو جاء في الخبر المرفوع أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له و لن يخرج عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له في الدنيا و هي راغمة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 280164لَا تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلًا وَ يَقِينَكُمْ شَكّاً إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَ إِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُواهذا نهي للعلماء عن ترك العمل يقول لا تجعلوا علمكم كالجهل فإن الجاهل قد يقول جهلت فلم أعمل و أنتم فلا عذر لكم لأنكم قد علمتم و انكشف لكم سر الأمر فوجب عليكم أن تعملوا و لا تجعلوا علمكم جهلا فإن من علم المنفعة في أمر و لا حائل بينه و بينه ثم لم يأته كان سفيها(20/96)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 281165إِنَّ الطَّمَعَ مُورِدُ غَيْرُ مُصْدِرٍ وَ ضَامِنٌ غَيْرُ وَفِيٍّ وَ رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ وَ كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الشَّيْ ءِ الْمُتَنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ لِفَقْدِهِ وَ الْأَمَاُّ تُعْمِي أَعْيُنَ الْبَصَائِرِ وَ الْحَظُّ يَأْتِي مَنْ لَا يَأْتِيهِ
قد تقدم القول في هذه المعاني كلها و قد ضرب الحكماء مثالا لفرط الطمع فقالوا إن رجلا صاد قبرة فقالت ما تريد أن تصنع بي قال أذبحك و آكلك قالت و الله ما أشفي من قرم و لا أشبع من جوع و لكني أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من أكلي أما واحدة فأعلمك إياها و أنا في يدك و أما الثانية فإذا صرت على الشجرة أما الثالثة فإذا صرت على الجبل فقال هاتي الأولى قالت لا تلهفن على ما فات فخلاها فلما صارت على الشجرة قال هاتي الثانية قالت لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين وزن كل واحدة ثلاثون مثقالا فعض على يديه و تلهف تلهفا شديدا و قال هاتي الثالثة فقالت أنت قد أنسيت الاثنتين فما تصنع بالثالثة أ لم أقل لك لا تلهفن على شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 166ما فات و قد تلهفت و أ لم أقل لك لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون و أنا و لحمي دمي و ريشي لا يكون عشرين مثقالا فكيف صدقت أن في حوصلتي درتين كل واحدة منهما ثلاثون مثقالا ثم طارت و ذهبت. و قوله و ربما شرق شارب الماء قبل ريه كلام فصيح و هو مثل لمن يخترم بغتة أو تطرقه الحوادث و الخطوب و هو في تلهية من عيشه. و مثل الكلمة الأخرى قولهم على قدر العطية تكون الرزية. و القول في الأماني قد أوسعنا القول فيه من قبل و كذلك في الحظوظ(20/97)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 282167اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تَحْسُنَ فِي لَامِعَةِ الْعُيُونِ عَلَانِيَتِي وَ تَقْبُحَ فِيمَا أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتِي مُحَافِظاً عَلَى رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِّي فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي وَ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي تَقَرُّباً إِلَى عِبَادِكَ وَ تَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ
قد تقدم القول في الرياء و أن يظهر الإنسان من العبادة و الفعل الجميل ما يبطن غيره و يقصد بذلك السمعة و الصيت لا وجه الله تعالى. و قد جاء
في الخبر المرفوع أخوف ما أخاف على أمتي الرياء و الشهوة الخفية
قال المفسرون و الرياء من الشهوة الخفية لأنه شهوة الصيت و الجاه بين الناس بأنه متين الدين مواظب على نوافل العبادات و هذه هي الشهوة الخفية أي ليست كشهوة الطعام و النكاح و غيرهما من الملاذ الحسية. و
في الخبر المرفوع أيضا أن اليسير من الرياء شرك و أن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين هم في بيوتهم إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 283168وَ قَالَ ع لَا وَ الَّذِي أَمْسَيْنَا مِنْهُ فِي غُبَّرِ لَيْلَةٍ دَهْمَاءَ تَكْشِرُ عَنْ يَوْمٍ أَغَرَّ مَا كَانَ كَذَا وَ كَذَا قد روي تفتر عن يوم أغر
و الغبر البقايا و كذلك الأغبار و كشر أي بسم و أصله الكشف. و هذا الكلام إما أن يكون قاله على جهة التفاؤل أو أن يكون إخبارا بغيب و الأول أوجه(20/98)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 284169قَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُلا ريب أن من أراد حفظ كتاب من الكتب العلمية فحفظ منه قليلا قليلا و دام على ذلك فإن ذلك أنفع له و أرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيرا و لا يدوم عليه لملاله إياه و ضجره منه و التجربة تشهد بذلك. و القول في غير الحفظ كالقول في الحفظ نحو الزيارة القليلة للصديق و نحو العطاء اليسير الدائم الذي هو خير من الكثير المنقطع و نحو ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 285170إِذَا أَضَرَّتِ النَّوَافِلُ بِالْفَرَائِضِ فَارْفُضُوهَاقد تقدم القول في النافلة هل تصح ممن عليه فريضة لم يؤدها و ذكرنا مذاهب الفقهاء في ذلك. و لا ريب أن من استغرق الوقت بالنوافل حتى آن أوقات الفرائض لم يفعل الفرائض فيها و شغلها بالعبادة النفلية فقد أخطأ و الواجب أن يرفض النافلة حيث يتضيق وقت الفريضة لا خلاف بين المسلمين في ذلك و يصلح أن يكون هذا مثلا ظاهره ما ذكرنا و باطنه أمر آخر(20/99)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 286171مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ السَّفَرِ اسْتَعَدَّهذا مثل قولهم في المثل الليل طويل و أنت مقمر و قال أيضا عش و لا تغتر. و قال أصحاب المعاني مثل الدنيا كركب في فلاة وردوا ماء طيبا فمنهم من شرب من ذلك الماء شربا يسيرا ثم أفكر في بعد المسافة التي يقصدونها و أنه ليس بعد ذلك الماء ماء آخر فتزود منه ماء أوصله إلى مقصده و منهم من شرب من ذلك الماء شرب عظيما و لها عن التزود و الاستعداد و ظن أن ما شرب كاف له و مغن عن ادخار شي ء آخر فقطع به و أخلفه ظنه فعطش في تلك الفلاة و مات. و قد روي عن النبي ص أنه قال لأصحابه إنما مثلي و مثلكم و مثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي أنفدوا الزاد و حسروا الظهر و بقوا بين ظهراني المفازة لا زاد و لا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء فقالوا هذا قريب عهد بريف و ما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم و شاهد حالهم قال أ رأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء و رياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 172قال عهودكم و مواثيقكم بالله فأعطوه ذلك فأوردهم ماءواء و رياضا خضرا و مكث بينهم ما شاء الله ثم قال إني مفارقكم قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم و رياض ليست كرياضكم فقال الأكثرون منهم و الله ما وجدنا ما نحن فيه حتى ظننا أنا لا نجده و ما نصنع بمنزل خير من هذا و قال الأقلون منهم أ لم تعطوا هذا الرجل مواثيقكم و عهودكم بالله لا تعصونه شيئا و قد صدقكم في أول حديثه و الله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن تبعه منهم و تخلف الباقون فدهمهم عدو شديد البأس عظيم الجيش فأصبحوا ما بين أسير و قتيل(20/100)

126 / 150
ع
En
A+
A-