قال أبو عبيدة في هذا الحديث من الفقه أن من كان له دين على الناس فليس عليه أن يزكيه حتى يقبضه فإذا قبضه زكاه لما مضى و إن كان لا يرجوه قال و هذا يرده قول من قال إنما زكاته على الذي عليه المال لأنه المنتفع به قال شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 113و كما يروى عنبراهيم و العمل عندنا على قول علي ع فأما ما ذكره الرضي من أن الجد هي البئر العادية في الصحراء فالمعروف عند أهل اللغة أن الجد البئر التي تكون في موضع كثير الكلإ و لا تسمى البئر العادية في الصحراء الموات جدا و شعر الأعشى لا يدل على ما فسره الرضي لأنه إنما شبه علقمة بالبئر و الكلإ يظن أن فيها ماء لمكان الكلإ و لا يكون موضع الظن هذا هو مراده و مقصوده و لهذا قال الظنون و لو كانت عادية في بيداء مقفرة لم تكن ظنونا بل كان يعلم أنه لا ماء فيها فسقط عنها اسم الظنون
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 264114 و منه أَنَّهُ شَيَّعَ جَيْشاً يُغْزِيهِ فَقَالَ اعْزُبُوا عَنِ النِّسَاءِ مَا اسْتَطَعْتُم و معناه اصدفوا عن ذكر النساء و شغل القلوب بهن و امتنعوا من المقاربة لهن لأن ذلك يفت في عضد الحمية و يقدح في معاقد العزيمة و يكسر عن العدو و يلفت عن الإبعاد في الغزو فكل من امتنع من شي ء فقد أعزب عنه و العازب و العزوب الممتنع من الأكل و الشرب التفسير صحيح لكن قوله من امتنع من شي ء فقد أعزب عنه ليس بجيد و الصحيح فقد عزب عنه ثلاثي و الصواب و كل من منعته من شي ء فقد أعزبته عنه تعديه بالهمزة كما تقول أقمته و أقعدته و الفعل ثلاثي قام و قعد و الدليل على أن الماضي ثلاثي هاهنا قوله و العازب و العزوب ممتنع من الأكل و الشرب و لو كان رباعيا لكان المعزب و هو واضح و على هذا تكون الهمزة في أول الحرف همزة وصل مكسورة كما في اضربوا لأن المضارع يعزب بالكسر(20/61)
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 265115 و منه كَالْيَاسِرِ الْفَالِجِ يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِه قال الياسرون هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزور و الفالج القاهر الغالب يقال قد فلج عليهم و فلجهم قال الراجز
لما رأيت فالجا قد فلجا
أول الكلام أن المرء المسلم ما لم يغش دناءة يخشع لها إذا ذكرت و يغري به لئام الناس كالياسر الفالج ينتظر أول فوزة من قداحه أو داعي الله فما عند الله خير للأبرار يقول هو بين خيرتين إما أن يصير إلى ما يحب من الدنيا فهو بمنزلة صاحب القدح المعلى و هو أوفرها نصيبا أو يموت فما عند الله خير له و أبقى و ليس يعني بقوله الفالج القامر الغالب كما فسره الرضي رحمه الله لأن الياسر الغالب القامر لا ينتظر أول فوزة من قداحه و كيف ينتظر و قد غلب و أي حاجة له إلى الانتظار و لكنه يعني بالفالج الميمون النقيبة الذي له عادة مطردة أن يغلب و قل أن يكون مقهورا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 266116 و منه كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْه قال معنى ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو و اشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله ص بنفسه فينزل الله تعالى النصر عليهم به و يأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه. و قوله إذا احمر البأس كناية عن اشتداد الأمر و قد قيل في ذلك أقوال أحسنها أنه شبه حمي الحرب بالنار التي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها و مما يقوي ذلك قول الرسول ص و قد رأى مجتلد الناس يوم حنين و هي حرب هوازن الآن حمي الوطيس و الوطيس مستوقد النار فشبه رسول الله ص ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار و شدة التهابها(20/62)
الجيد في تفسير هذا اللفظ أن يقال البأس الحرب نفسها قال الله تعالى وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ و في الكلام حذف مضاف تقديره شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 117إذا احمر موضع البأس و هو الأرض التي عليها معركة القوم و احمرارهلما يسيل عليها من الدم
نبذ من غريب كلام الإمام علي و شرحه لأبي عبيد
و لما كان تفسير الرضي رحمه الله قد تعرض للغريب من كلامه ع و رأينا أنه لم يذكر من ذلك إلا اليسير آثرنا أن نذكر جملة من غريب كلامه ع مما نقله أرباب الكتب المصنفة في غريب الحديث عنه ع. فمن ذلك
ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه لأن أطلي بجواء قدر أحب إلي من أن أطلي بزعفران
قال أبو عبيد هكذا الرواية عنه بجواء قدر قال و سمعت الأصمعي يقول إنما هي الجئاوة و هي الوعاء الذي يجعل القدر فيه و جمعها جياء. قال و قال أبو عمرو يقال لذلك الوعاء جواء و جياء قال و يقال للخرقة التي ينزل بها الوعاء عن الأثافي جعال. و
منها قوله ع حين أقبل يريد العراق فأشار إليه الحسن بن علي ع أن يرجع و الله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد
قال أبو عبيد قال الأصمعي اللدم صوت الحجر أو الشي ء يقع على الأرض و ليس بالصوت الشديد يقال منه لدم ألدم بالكسر و إنما قيل ذلك للضبع لأنهم إذا أرادوا أن يصيدوها رموا في جحرها بحجر خفيف أو ضربوا بأيديهم فتحسبه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 118شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد و هي زعموا أنها من أحمق الدواب بلغ من حمقها أن يدخل عليها فيقال أم عامر نائمة أو ليست هذه و الضبع هذه أم عامر فتسكت حتى تؤخذ فأراد علي ع أني لا أخدع كما تخدع الضبع باللدم. و منها قوله ع من وجد في بطنه رزا فلينصرف و ليتوضأ(20/63)
قال أبو عبيد قال أبو عمرو إنما هو أرزا مثل أرز الحية و هو دورانها و حركتها فشبه دوران الريح في بطنه بذلك. قال و قال الأصمعي هو الرز يعنى الصوت في البطن من القرقرة و نحوها قال الراجز
كان في ربابه الكبار رز عشار جلن في عشار
و قال أبو عبيد فقه هذا الحديث أن ينصرف فيتوضأ و يبني على صلاته ما لم يتكلم و هذا إنما هو قبل أن يحدث. قلت و الذي أعرفه من الأرز أنه الانقباض لا الدوران و الحركة يقال أرز فلان بالفتح و بالكسر إذ تضام و تقبض من بخله فهو أروز و المصدر أرزا و أروزا قال رؤبة
فذاك يخال أروز الأرز
فأضاف الاسم إلى المصدر كما يقال عمر العدل و عمرو الدهاء لما كان العدل و الدهاء أغلب أحوالهما و قال أبو الأسود الدؤلي يذم إنسانا إذا سئل أرز و إذا دعي اهتز يعني إلى الطعام و
في الحديث أن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها
أي يجتمع إليها و ينضم بعضه إلى بعض فيها. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 119و منها قوله لئن وليت بني أمية لأنفضنهم نفض القصاب التراب الوذمة
و قد تقدم منا شرح ذلك و الكلام فيه. و منها
قوله في ذي الثدية المقتول بالنهروان إنه مودن اليد أو مثدن اليد أو مخدع اليد
قال أبو عبيدة قال الكسائي و غيره المودن اليد القصير اليد و يقال أودنت الشي ء أي قصرته و فيه لغة أخرى ودنته فهو مودون قال حسان يذم رجلا و أملك سوداء مودونة كأن أناملها الحنظب(20/64)
و أما مثدن اليد بالثاء فإن بعض الناس قال نراه أخذه من الثندوة و هي أصل الثدي فشبه يده في قصرها و اجتماعها بذلك فإن كان من هذا فالقياس أن يقال مثند لأن النون قبل الدال في الثندوة إلا أن يكون من المقلوب فذاك كثير في كلامهم. و أما مخدع اليد فإنه القصير اليد أيضا أخذ من أخداج الناقة ولدها و هو أن تضعه لغير تمام في خلقه قال و قال الفراء إنما قيل ذو الثدية فأدخلت الهاء فيها و إنما هي تصغير ثدي و الثدي مذكر لأنها كأنها بقية ثدي قد ذهب أكثره فقللها كما تقول لحيمة و شحيمة فأنث على هذا التأويل قال و بعضهم يقول ذو اليدية قال أبو عبيد و لا أرى الأصل كان إلا هذا و لكن الأحاديث كلها تتابعت بالثاء ذو الثدية. و منها
قوله ع لقوم و هو يعاتبهم ما لكم لا تنظفون عذراتكم
قال العذرة فناء الدار و إنما سميت تلك الحاجة عذرة لأنها بالأفنية كانت تلقى شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 120فكنى عنها بالعذرة كما كنى عنها بالغائط و إنما الغائط الأرض المطمئنة و قال الحطيئة يهجو قومالعمري لقد جربتكم فوجدتكم فباح الوجوه سيئ العذرات
و منها قوله ع لا جمعة و لا تشريق إلا في مصر جامع
قال أبو عبيد التشريق هاهنا صلاة العيد و سميت تشريقا لإضاءة وقتها فإن وقتها إشراق الشمس و صفاؤها و إضاءتها و
في الحديث المرفوع من ذبح قبل التشريق فليعد
أي قبل صلاة العيد. قال و كان أبو حنيفة يقول التشريق هاهنا هو التكبير في دبر الصلاة يقول لا تكبير إلا على أهل الأمصار تلك الأيام لا على المسافرين أو من هو في غير مصر. قال أبو عبيد و هذا كلام لم نجدا أحدا يعرفه إن التكبير يقال له التشريق و ليس يأخذ به أحد من أصحابه لا أبو يوسف و لا محمد كلهم يرى التكبير على المسلمين جميعا حيث كانوا في السفر و الحضر و في الأمصار و غيرها. و منها(20/65)