هذا الفصل يتضمن بيان تعليل العبادات إيجابا و سلبا. قال ع فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك و ذلك لأن الشرك نجاسة حكمية لا عينية و أي شي ء يكون أنجس من الجهل أو أقبح فالإيمان هو تطهير القلب من نجاسة ذلك الجهل. و فرضت الصلاة تنزيها من الكبر لأن الإنسان يقوم يها قائما و القيام مناف للتكبر و طارد له ثم يرفع يديه بالتكبير وقت الإحرام بالصلاة فيصير على هيئة من يمد عنقه ليوسطه السياف ثم يستكتف كما يفعله العبيد الأذلاء بين يدي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 87السادة العظماء ثم يركع على هيئة من يمد عنقه ليضربها السيافم يسجد فيضع أشرف أعضائه و هو جبهته على أدون المواضع و هو التراب ثم تتضمن الصلاة من الخضوع و الخشوع و الامتناع من الكلام و الحركة الموهمة لمن رآها أن صاحبها خارج عن الصلاة و ما في غضون الصلاة من الأذكار المتضمنة الذل و التواضع لعظمة الله تعالى. و فرضت الزكاة تسبيبا للرزق كما قال الله تعالى وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ و قال مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ. و فرض الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق قال النبي ص حاكيا عن الله تعالى الصوم لي و أنا أجزي به(20/46)
و ذلك لأن الصوم أمر لا يطلع عليه أحد فلا يقوم به على وجهه إلا المخلصون. و فرض الحج تقوية للدين و ذلك لما يحصل للحاج في ضمنه من المتاجر و المكاسب قال الله تعالى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ... عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ و أيضا فإن المشركين كانوا يقولون لو لا أن أصحاب محمد كثير و أولو قوة لما حجوا فإن الجيش الضعيف يعجز عن الحج من المكان البعيد. و فرض الجهاد عزا للإسلام و ذلك ظاهر قال الله تعالى وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً و قال سبحانه وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 88و فرض امر بالمعروف مصلحة للعوام لأن الأمر بالعدل و الإنصاف و رد الودائع و أداء الأمانات إلى أهلها و قضاء الديون و الصدق في القول و إيجاز الوعد و غير ذلك من محاسن الأخلاق مصلحة للبشر عظيمة لا محالة. و فرض النهي عن المنكر ردعا للسفهاء كالنهي عن الظلم و الكذب و السفه و ما يجري مجرى ذلك. و فرضت صلة الرحم منماة للعدد
قال النبي ص صلة الرحم تزيد في العمر و تنمي العدد
و فرض القصاص حقنا للدماء قال سبحانه وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ. و فرضت إقامة الحدود إعظاما للمحارم و ذلك لأنه إذا أقيمت الحدود امتنع كثير من الناس عن المعاصي التي تجب الحدود فيها و ظهر عظم تلك المعاصي عند العامة فكانوا إلى تركها أقرب. و حرم شرب الخمر تحصينا للعقل قال قوم لحكيم اشرب الليلة معنا فقال أنا لا أشرب ما يشرب عقلي و(20/47)
في الحديث المرفوع أن ملكا ظالما خير إنسانا بين أن يجامع أمه أو يقتل نفسا مؤمنة أو يشرب الخمر حتى يسكر فرأى أن الخمر أهونها فشرب حتى سكر فلما غلبه قام إلى أمه فوطئها و قام إلى تلك النفس المؤمنة فقتلها ثم قال ع الخمر جماع الإثم الخمر أم المعاصي
و حرمت السرقة إيجابا للعفة و ذلك لأن العفة خلق شريف و الطمع خلق دني ء فحرمت السرقة ليتمرن الناس على ذلك الخلق الشريف و يجانبوا ذلك الخلق الذميم و أيضا حرمت لما في تحريمها من تحصين أموال الناس. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 89و حرم الزنا تحصينا للنسب فإنه ي إلى اختلاط المياه و اشتباه الأنساب و ألا ينسب أحد بتقدير ألا يشرع النكاح إلى أب بل يكون نسب الناس إلى أمهاتهم و في ذلك قلب الحقيقة و عكس الواجب لأن الولد مخلوق من ماء الأب و إنما الأم وعاء و ظرف. و حرم اللواط تكثيرا للنسل و ذلك اللواط بتقدير استفاضته بين الناس و الاستغناء به عن النساء يفضي إلى انقطاع النسل و الذرية و ذلك خلاف ما يريد الله تعالى من بقاء هذا النوع الشريف الذي ليس في الأنواع مثله في الشرف لمكان النفس الناطقة التي هي نسخة و مثال للحضرة الإلهية و لذلك سمت الحكماء الإنسان العالم الصغير. و حرم الاستمناء باليد و إتيان البهائم للمعنى الذي لأجله حرم اللواط و هو تقليل النسل و من مستحسن الكلمات النبوية
قوله ع في الاستمناء باليد ذلك الوأد الخفي
لأن الجاهلية كانت تئد البنات أي تقتلهن خنقا و قد قدمنا ذكر سبب ذلك فشبه ع إتلاف النطفة التي هي ولد بالقوة بإتلاف الولد بالفعل. و أوجبت الشهادات على الحقوق استظهارا على المجاحدات
قال النبي ص لو أعطي الناس بدعاويهم لاستحل قوم من قوم دماءهم و أموالهم(20/48)
و وجب ترك الكذب تشريفا للصدق و ذلك لأن مصلحة العامة إنما تتم و تنتظم بالصدق فإن الناس يبنون أكثر أمورهم في معاملاتهم على الأخبار فإنها أعم من العيان و المشاهدة فإذا لم تكن صادقة وقع الخطأ في التدبيرات و فسدت أحوال الخلق. و شرع رد السلام أمانا من المخاوف لأن تفسير قول القائل سلام عليكم أي لا حرب بيني و بينكم بل بيني و بينكم السلام و هو الصلح. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 90و فرضت الإمامة نظاما للأمة و ذلك لأن الخلق لا يرتفع الهرج و العسف و الظلم و الغضب و السرقة عنهم إلا بوازع قوي و ليس يكفي في امتناعهم قبح قبيح و لا وعيد الآخرة بل لا بد لهم من سلطان قاهر ينظم مصالحهم فيردع ظالمهم و يأخذ على أيدي سفهائهم. و فرضت الطاعة تعظيما للإمامة و ذلك لأن أمر الإمامة لا يتم إلا بطاعة الرعية و إلا فلو عصت الرعية إمامها لم ينتفعوا بإمامته و رئاسته عليهم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 25091وَ كَانَ ع يَقُولُ أَحْلِفُوا الظَّالِمَ إِذَا أَرَدْتُمْ يَمِينَهُ بِأَنَّهُ بَرِي ءٌ مِنْ حَوْلِ اللَّهِ وَ قُوَّتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِهَا كَاذِباً عُوجِلَ وَ إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُلَمْ يُعَاجَلْ لِأَنَّهُ قَدْ وَحَّدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى
ما جرى بين يحيى بن عبد الله و بين ابن المصعب عند الرشيد(20/49)
روى أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع لما أمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم و صار إليه بالغ في إكرامه و بره فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري إلى الرشيد و كان يبغضه و قال له إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا و حسن له نقض أمانه فأحضره و جمع بينه و بين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به و رفعه عليه فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد و ادعى عليه الحركة في الخروج و شق العصا فقال يحيى يا أمير المؤمنين أ تصدق هذا علي و تستنصحه و هو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك عبد الله و ولده الشعب و أضرم عليهم النار حتى خلصه أبو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب ع منه عنوة و هو الذي ترك الصلاة على شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 92رسول الله ص و أربعين جمعة في خطبته فلما التاث عليه الناس قال إن له أهيل سوإذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم و اشرأبوا لذكره فأكره أن أسرهم أو أقر أعينهم و هو الذي كان يشتم أباك و يلصق به العيوب حتى ورم كبده و لقد ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت فقال علي ابنه أ ما ترى كبد هذه البقرة يا أبت فقال يا بني هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك ثم نفاه إلى الطائف فلما حضرته الوفاة قال لابنه علي يا بني إذا مت فالحق بقومك من بني عبد مناف بالشام و لا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير و و الله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء و لكنه قوي علي بك و ضعف عنك فتقرب بي إليك ليظفر منك بي بما يريد إذا لم يقدر على مثله منك و ما ينبغي لك أن تسوغه ذلك في فإن معاوية بن أبي سفيان و هو أبعد نسبا منك إلينا ذكر الحسن بن علي يوما فسبه فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك فزجره و انتهره فقال إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين فقال إن الحسن لحمي آكله(20/50)