إذا كان الرزق بقضاء الله و قدره فمن حزن لفوات شي ء منه فقد سخط قضاء الله و ذلك معصية لأن الرضا بقضاء الله واجب و كذلك من شكا مصيبة حلت به فإنما يشكو فاعلها لا هي لأنها لم تنزل به من تلقاء نفسها و فاعلها هو الله و من اشتكى الله فقد عصاه و التواضع للأغنياء عظيما لغناهم أو رجاء شي ء مما في أيديهم فسق. و كان يقال لا يحمد التيه إلا من فقير على غني فأما قوله ع و من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا. فلقائل أن يقول قد يكون مؤمنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا و يقرؤه ثم شرح نهج البلاغة ج : ص : 53يدخل النار لأنه أتى بكبيرة أخرى نحو القتل و الزنا و الفرار من الزحف و أمثال ذلك. و الجواب أن معنى كلامه ع هو أن من قرأ القرآن فمات فدخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا أي يقرؤه هازئا به ساخرا منه مستهينا بمواعظه و زواجره غير معتقد أنه من عند الله. فإن قلت إنما دخل من ذكرت النار لا لأجل قراءته القرآن بل لهزئه به و جحوده إياه و أنت قلت معنى كلامه أنه من دخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يستهزئ بالقرآن. قلت بل إنما دخل النار لأنه قرأه على صفة الاستهزاء و السخرية أ لا ترى أن الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهة العبادة و التعظيم و إن كان لو لا ما يحدثه مضافا للسجود من أفعال القلوب لما عوقب. و يمكن أن يحمل كلامه ع على تفسير آخر فيقال إنه عنى بقوله إنه كما كان ممن يتخذ آيات الله هزوا أنه يعتقد أنها من عند الله و لكنه لا يعمل بموجبها كما يفعله الآن كثير من الناس. قوله ع التاط بقلبه أي لصق و لا يغبه أي لا يأخذه غبا بل يلازمه دائما و صدق ع فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة و حب الدنيا هو الموجب للهم و الغم و الحرص و الأمل و الخوف على ما اكتسبه أن ينفد و للشح بما حوت يده و غير ذلك من الأخلاق الذميمة(20/26)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22554كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً وَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ نَعِيماًقد تقدم القول في هذين و هما القناعة و حسن الخلق. و كان يقال يستحق الإنسانية من حسن خلقه و يكاد السيئ الخلق يعد من السباع. و قال بعض الحكماء حد القناعة هو الرضا بما دون الكفاية و الزهد الاقتصار على الزهيد أي القليل و هما متقاربان و في الأغلب إنما الزهد هو رفض الأمور الدنيوية مع القدرة عليها و أما القناعة فهي إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التي لا يقدر عليها و كل زهد حصل عن قناعة فهو تزهد و ليس بزهد و كذلك قال بعض الصوفية القناعة أول الزهد تنبيها على أن الإنسان يحتاج أولا إلى قدع نفسه و تخصصه بالقناعة ليسهل عليه تعاطي الزهد و القناعة التي هي الغنى بالحقيقة لأن الناس كلهم فقراء من وجهين أحدهما لافتقارهم إلى الله تعالى كما قال يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. و الثاني لكثرة حاجاتهم فأغناهم لا محالة أقلهم حاجة و من سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها مطمع و هو كمن يرقع الخرق بالخرق و من يسدها بالاستغناء عنها بقدر وسعه و الاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغني المقرب من الله سبحانه كما أشار إليه في قصة طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قال أصحاب المعاني و الباطن هذا إشارة إلى الدنيا(20/27)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22655وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فَقَالَ هِيَ الْقَنَاعَةُلا ريب أن الحياة الطيبة هي حياة الغنى و قد بينا أن الغني هو القنوع لأنه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى الناس و لذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شي ء و على هذا دل النبي بقوله ص ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس
و قال الشاعر
فمن أشرب اليأس كان الغني و من أشرب الحرص كان الفقيرا
و قال الشاعر
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
و قال بعض الحكماء المخير بين أن يستغني عن الدنيا و بين أن يستغني بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا. و لهذا
قال ع تعس عبد الدينار و الدرهم تعس فلا انتعش و شيك فلا انتقش
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 56و قيل لحكيم لم لا تغتم قال لأني لم أتخذ ما يغمني فقده. و قال الشاعرفمن سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا(20/28)


و قال أصحاب هذا الشأن القناعة من وجه صبر و من وجه جود لأن الجود ضربان جود بما في يدك منتزعا و جود عما في يد غيرك متورعا و ذلك أشرفهما و لا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي و يعرف عيوبها و آفاتها و يعرف الآخرة و افتقاره إليها و لا بد في ذلك من العلم أ لا ترى إلى قوله تعالى قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ. و لأن الزاهد في الدنيا راغب في الآخرة و هو يبيعها بها كما قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية. و الكيس لا يبيع عينا بأثر إلا إذا عرفهما و عرف فضل ما يبتاع على ما يبيع
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22757شَارِكُوا الَّذِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَى وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ الْحَظِّقد تقدم القول في الحظ و البخت. و كان يقال الحظ يعدي كما يعدي الجرب و هذا يطابق كلمة أمير المؤمنين ع لأن مخالطة المجدود ليست كمخالطة غير المجدود فإن الأولى تقتضي الاشتراك في الحظ و السعادة و الثانية تقتضي الاشتراك في الشقاء و الحرمان. و القول في الحظ وسيع جدا. و قال بعضهم البخت على صورة رجل أعمى أصم أخرس و بين يديه جواهر و حجارة و هو يرمي بكلتا يديه. و كان مالك بن أنس فقيه المدينة و أخذ الفقه عن الليث بن سعد و كانوا يزدحمون عليه و الليث جالس لا يلتفتون إليه فقيل لليث إن مالكا إنما أخذ عنك فما لك خاملا و هو أنبه الناس ذكرا فقال دانق بخت خير من جمل بختي حمل علما. و قال الرضي(20/29)


أسيغ الغيظ من نوب الليالي و ما يحفلن بالحنق المغيظو أرجو الرزق من خرق دقيق يسد بسلك حرمان غليظو أرجع ليس في كفي منه سوى عض اليدين على الحظوظ
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22858وَ قَالَ ع فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ وَ الْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُهذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافة و إنما دخل الندب تحت الأمر لأن له صفة زائدة على حسنه و ليس كالمباح الذي لا صفة له زائدة على حسنه. و قال الزمخشري العدل هو الواجب لأن الله عز و جل عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت طاقتهم و الإحسان الندب و إنما علق أمره بهما جميعا لأن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب و لذلك
قال رسول الله ص لإنسان علمه الفرائض فقال و الله لا زدت فيها و لا نقصت منها أفلح إن صدق
فعقد الفلاح بشرط الصدق و السلامة من التفريط و
قال ص استقيموا و لن تحصوا
فليس ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل. و لقائل أن يقول إن كان إنما سمي الواجب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف فليسم الندب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف و أما قوله إنما أمر بالندب لأنه يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب فلا يصح على مذهبه و هو من أعيان المعتزلة لأنه لو جبرت النافلة بالتفريط في الواجب لكانت واجبة مثله و كيف يقول الزمخشري هذا و من قول مشايخنا إن تارك صلاة واحدة من الفرائض لو صلى مائة ألف ركعة من النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاة(20/30)

112 / 150
ع
En
A+
A-