شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20024لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَمْتِعُ بِشَيْ ءٍ مِنْهُ وَ قَدْ يُدْرَكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ وَ اللَّهُ يُحِبُّْمُحْسِنِينَ
قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت من جملة قصيدة لي حكمية
لا تسدين إلى ذي اللؤم مكرمة فإنه سبخ لا ينبت الشجرافإن زرعت فمحفوظ بمضيعة و أكل زرعك شكر الغير إن كفرا
و قد سبق منا كلام طويل في الشكر. و رأى العباس بن المأمون يوما بحضرة المعتصم خاتما في يد إبراهيم بن المهدي فاستحسنه فقال له ما فص هذا الخاتم و من أين حصلته فقال إبراهيم هذا خاتم رهنته في دولة أبيك و افتككته في دولة أمير المؤمنين فقال العباس فإن لم تشكر أبي على حقنه دمك فأنت لا تشكر أمير المؤمنين على فكه خاتمك. و قال الشاعر(20/11)
لعمرك ما المعروف في غير أهله و في أهله إلا كبعض الودائع فمستودع ضاع الذي كان عنده و مستودع ما عنده غير ضائع و ما الناس في شكر الصنيعة عندهم و في كفرها إلا كبعض المزارع فمزرعة طابت و أضعف نبتها و مزرعة أكدت على كل زا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20125كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ بِهِهذا الكلام تحته سر عظيم و رمز إلى معنى شريف غامض و منه أخذ مثبتو النفس الناطقة الحجة على قولهم و محصول ذلك أن القوى الجسمانية يكلها و يتعبها تكرار أفاعيلها عليها كقوة البصر يتعبها تكرار إدراك المرئيات حتى ربما أذهبها و أبطلها أصلا و كذلك قوة السمع يتعبها تكرار الأصوات عليها و كذلك غيرها من القوى الجسمانية و لكنا وجدنا القوة العاقلة بالعكس من ذلك فإن الإنسان كلما تكررت عليه المعقولات ازدادت قوته العقلية سعة و انبساطا و استعدادا لإدراك أمور أخرى غير ما أدركته من قبل حتى كان تكرار المعقولات عليها يشحذها و يصقلها فهي إذن مخالفة في هذا الحكم للقوى الجسمانية فليست منها لأنها لو كانت منها لكان حكمها حكم واحد من أخواتها و إذا لم تكن جسمانية فهي مجردة و هي التي نسميها بالنفس الناطقة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20226أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِقد تقدم من أقوالنا في الحلم ما في بعضه كفاية. و في الحكم القديمة لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام. و كان يقال اعف عمن أبطأ عن الذنب و أسرع إلى الندم. و كان يقال شاور الأناة و التثبت و ذاكر الحفيظة عند هيجانها ما في عواقب العقوبة من الندم و خاصمها بما يؤدى إليه الحلم من الاغتباط. و كان يقال ينبغي للحازم أن يقدم على عذابه و صفحه تعريف المذنب بما جناه و إلا نسب حلمه إلى الغفلة و كلال حد الفطنة و(20/12)
قالت الأنصار للنبي ص يوم فتح مكة إنهم فعلوا بك ثم فعلوا يغرونه بقريش فقال إنما سميت محمدا لأحمد
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20327إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْالتحلم تكلف الحلم و الذي قاله ع صحيح في مناهج الحكمة و ذلك لأن من تشبه بقوم و تكلف التخلق بأخلاقهم و التأدب بآدابهم و استمر على ذلك و مرن عليه الزمان الطويل اكتسب رياضة قوية و ملكة تامة و صار ذلك التكلف كالطبع له و انتقل عن الخلق الأول أ لا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن و القرى و خالط أهلها و طال مكثه فيهم انتقل عن خلق الأعراب الذي نشأ عليه و تلطف طبعه و صار شبيها بساكني المدن و كالأجنبي عن ساكني الوبر و هذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي و الصقر و الفهد التي تراض حتى تذل و تأنس و تترك طبعها القديم بل قد شاهدناه في الأسد و هو أبعد الحيوان من الإنس. و ذكر ابن الصابي أن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها كالفهود فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه و هذا من العجائب الطريفة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20428مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَ مَنْ خَافَ أَمِنَ وَ مَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ وَ مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَ مَنْ فَهِمَ عَلِمَ قد جاء في الحديث المرفوع حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا(20/13)
قوله و من خاف أمن أي من اتقى الله أمن من عذابه يوم القيامة. ثم قال و من اعتبر أبصر أي من قاس الأمور بعضها ببعض و اتعظ بآيات الله و أيامه أضاءت بصيرته و من أضاءت بصيرته فهم و من فهم علم. فإن قلت الفهم هو العلم فأي حاجة له إلى أن يقول و من فهم علم قلت الفهم هاهنا هو معرفة المقدمات و لا بد أن يستعقب معرفة المقدمات معرفة النتيجة فمعرفة النتيجة هو العلم فكأنه قال من اعتبر تنور قلبه بنور الله تعالى و من تنور قلبه عقل المقدمات البرهانية و من عقل المقدمات البرهانية علم النتيجة الواجبة عنها و تلك هي الثمرة الشريفة التي في مثلها يتنافس المتنافسون
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20529وَ قَالَ ع لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا وَ تَلَا عَقِيبَ ذَلِكَ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَعَلَهُمُ الْوارِثِينَ
الشماس مصدر شمس الفرس إذا منع من ظهره. و الضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها و الإمامية تزعم أن ذلك وعد منه بالإمام الغائب الذي يملك الأرض في آخر الزمان و أصحابنا يقولون إنه وعد بإمام يملك الأرض و يستولي على الممالك و لا يلزم من ذلك أنه لا بد أن يكون موجودا و إن كان غائبا إلى أن يظهر بل يكفي في صحة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت. و بعض أصحابنا يقول إنه إشارة إلى ملك السفاح و المنصور و ابني المنصور بعده فإنهم الذين أزالوا ملك بني أمية و هم بنو هاشم و بطريقهم عطفت الدنيا على بني عبد المطلب عطف الضروس. و تقول الزيدية إنه لا بد من أن يملك الأرض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميين على مذهب زيد و إن لم يكن أحد منهم الآن موجودا(20/14)
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20630اتَّقُوا اللَّهَ تُقَاةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيداً وَ جَدَّ تَشْمِيراً وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ وَ نَظَرَ فِي كَرَّةِ الْمَوْئِلِ وَ عَاقِبَةِ الْمَصْدَرِ وَ مَغَبَّةِ الْمَرْجِعِلو قال و جرد تشميرا لكان قد أتى بنوع مشهور من أنواع البديع لكنه لم يحفل بذلك و جرى على مقتضي طبعه من البلاغة الخالية من التكلف و التصنع على أن ذلك قد روي و المشهور الرواية الأولى. و أكمش جد و أسرع و رجل كميش أي جاد و في مهل أي في مهلة العمل قبل أن يضيق عليه وقته بدنو الأجل
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20731الْجُودُ حَارِسُ الْأَعْرَاضِ وَ الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ وَ الْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ وَ السُّلُوُّ عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ وَ الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ وَ الصَّرُ يُنَاضِلُ الْحِدْثَانَ وَ الْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ وَ أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى وَ كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ عِنْدَ هَوَى أَمِيرٍ وَ مِنَ التَّوْفِيقِ حِفْظُ التَّجْرِبَةِ وَ الْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ وَ لَا تَأْمَنَنَّ مَلُولًا(20/15)