شرح نهج ج 19
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 7الجزء التاسع عشرتتمة باب الحكم و المواعظ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
186إِنَّمَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا وَ نَهْبٌ تُبَادِرُهُ الْمَصَائِبُ وَ مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ وَ لَا يَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى وَ لَا يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ فَنَحْنُ أَعْوَانُ الْمَنُونِ وَ أَنْفُسُنَا نَصْبُ الْحُتُوفِ فَمِنْ أَيْنَ نَرْجُو الْبَقَاءَ وَ هَذَا اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَمْ يَرْفَعَا منْ شَيْ ءٍ شَرَفاً إِلَّا أَسْرَعَا الْكَرَّةَ فِي هَدْمِ مَابَنَيَا وَ تَفْرِيقِ مَا جَمَعَا(20/1)


قد سبق ذرء من هذا الكلام في أثناء خطبته ع و قد ذكرنا نحن أشياء كثيرة في الدنيا و تقلبها بأهلها. و من كلام بعض الحكماء طوبى للهارب من زخارف الدنيا و الصاد عن زهرة دمنتها و الخائف عند أمانها و المتهم لضمانها و الباكي عند ضحكها إليه و المتواضع عند إعزازها له و الناظر بعين عقله إلى فضائحها و المتأمل لقبح مصارعها و التارك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 8لكلابها على جيفها و المكذب لمواعيدها و المتيقظ لخدعها و المعرض عن لمعها و العامل في إمهالها و المتزود قبل إعجالها. قوله تنتضل النضل شي ء يرمى و يروى تبادره أي تتبه و الغرض الهدف. و النهب المال المنهوب غنيمة و جمعه نهاب. و قد سبق تفسير قوله لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى و قلنا إن الذي حصلت له لذة الجماع حال ما هي حاصلة له لا بد أن يكون مفارقا لذة الأكل و الشرب و كذلك من يأكل و يشرب يكون مفارقا حال أكله و شربه لذة الركض على الخيل في طلب الصيد و نحو ذلك. قوله فنحن أعوان المنون لأنا نأكل و نشرب و نجامع و نركب الخيل و الإبل و نتصرف في الحاجات و المآرب و الموت إنما يكون بأحد هذه الأسباب إما من أخلاط تحدثها المآكل و المشارب أو من سقطة يسقط الإنسان من دابة هو راكبها أو من ضعف يلحقه من الجماع المفرط أو لمصادمات و اصطكاكات تصيبه عند تصرفه في مآربه و حركته و سعيه و نحو ذلك فكأنا نحن أعنا الموت على أنفسنا. قوله نصب الحتوف يروى بالرفع و النصب فمن رفع فهو خبر المبتدإ و من نصبه جعله ظرفا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 1879لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِقد تكرر ذكر هذا القول و تكرر منا شرحه و شرح نظائره و كان يقال ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. و كان يقال اللسان عضو إن مرنته مرن و إن تركته خزن(20/2)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 18810يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَأخذ هذا المعنى بعضهم فقال
ما لي أراك الدهر تجمع دائبا أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع
و عاد الحسن البصري عبد الله بن الأهتم في مرضه الذي مات فيه فأقبل عبد الله يصرف بصره إلى صندوق في جانب البيت ثم قال للحسن يا أبا سعيد فيه مائة ألف لم يؤد منها زكاة و لم توصل بها رحم قال الحسن ثكلتك أمك فلم أعددتها قال لروعة الزمان و مكاثرة الإخوان و جفوة السلطان ثم مات فحضر الحسن جنازته فلما دفن صفق بإحدى راحتيه الأخرى و قال إن هذا تاه شيطانه فحذره روعة زمانه و جفوة سلطانه و مكاثرة إخوانه فيما استودعه الله إياه فادخره ثم خرج منه كئيبا حزينا لم يؤد زكاة و لم يصل رحما ثم التفت فقال أيها الوارث كل هنيئا فقد أتاك هذا المال حلالا فلا يكن عليك وبالا أتاك ممن كان له جموعا منوعا يركب فيه لجج البحار و مفاوز القفار من باطل جمعه و من حق منعه لم ينتفع به في حياته و ضره بعد وفاته جمعه فأوعاه و شده فأوكاه إلى يوم القيامة يوم ذي حسرات و إن أعظم الحسرات أن ترى مالك في ميزان غيرك بخلت بمال أوتيته من رزق الله أن تنفقه في طاعة الله فخزنته لغيرك فأنفقه في مرضاة ربه يا لها حسرة لا تقال و رحمة لا تنال إنا لله و إنا إليه راجعون(20/3)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 18911إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالًا وَ إِدْبَاراً فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَقد تقدم القول في هذا المعنى. و العلة في كون القلب يعمى إذا أكره على ما لا يحبه أن القلب عضو من الأعضاء يتعب و يستريح كما تتعب الجثة عند استعمالها و أحمالها و تستريح عند ترك العمل كما يتعب اللسان عند الكلام الطويل و يستريح عند الإمساك و إذا تواصل إكراه القلب على أمر لا يحبه و لا يؤثره تعب لأن فعل غير المحبوب متعب أ لا ترى أن جماع غير المحبوب يحدث من الضعف أضعاف ما يحدثه جماع المحبوب و الركوب إلى مكان غير محبوب متعب و لا يشتهى يتعب البدن أضعاف ما يتعبه الركوب إلى تلك المسافة إذا كان المكان محبوبا و إذا أتعب القلب و أعيا عجز عن إدراك ما نكلفه إدراكه لأن فعله هو الإدراك و كل عضو يتعب فإنه يعجز عن فعله الخاص به فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به و هو العلم و الإدراك فذاك هو عماه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19012وَ كَانَ ع يَقُولُ مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ أَ حِينَ أَعْجِزُ عَنِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَقد تقدم القول في الغضب مرارا. و هذا الفصل فصيح لطيف المعنى قال لا سبيل لي إلى شفاء غيظي عند غضبي لأني إما أن أكون قادرا على الانتقام فيصدني عن تعجيله قول القائل لو غفرت لكان أولى و إما ألا أكون قادرا على الانتقام فيصدني عنه كوني غير قادر عليه فإذن لا سبيل لي إلى الانتقام عند الغضب. و كان يقال العقل كالمرآة المجلوة يصدئه الغضب كما تصدأ المرآة بالخل فلا يثبت فيها صورة القبح و الحسن. و اجتمع سفيان الثوري و فضيل بن عياض فتذاكرا الزهد فأجمعا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب و الصبر عند الطمع(20/4)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19113وَ قَالَ ع وَ قَدْ مَرَّ بِقَذَرٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ وَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِقد سبق القول في مثل هذا و أن الحسن البصري مر على مزبلة فقال انظروا إلى بطهم و دجاجهم و حلوائهم و عسلهم و سمنهم و الحسن إنما أخذه من كلام أمير المؤمنين ع و قال ابن وكيع في قول المتنبي
لو أفكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه
إنه أراد لو أفكر في حاله و هو في القبر و قد تغيرت محاسنه و سالت عيناه قال و هذا مثل قولهم لو أفكر الإنسان فيما يئول إليه الطعام لعافته نفسه. و قد ضرب العلماء مثلا للدنيا و مخالفة آخرها أولها و مضادة مباديها عواقبها فقالوا إن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة و سيجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة و النتن و القبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا طبختها المعدة و بلغت غاية نضجها و كما أن الطعام كلما كان ألذ طعما و أظهر حلاوة كان رجيعه أقذر و أشد نتنا فكذلك كل شهوة في القلب أشهى و ألذ و أقوى شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 14فإن نتنها و كراهتها و التأذي بها عند الموت أشد بل هذه الحال في الدنيا مشاهدة فإن من نهبت داره و أخذ أهله و ولده و ماله تكون مصيبته و ألمه و تفجعه في الذي فقد بمقدار لذته به و حبه له و حرصه عليه فكل ما كان في الود أشهى و ألذ فهو عند الفقد أدهى و أمر و لا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا. و
قد روي أن النبي ص قال للضحاك بن سفيان الكلابي أ لست تؤتى بطعامك و قد قزح و ملح ثم تشرب عليه اللبن و الماء قال بلى قال فإلى ما ذا يصير قال إلى ما قد علمت يا رسول الله قال فإن الله عز و جل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم(20/5)

107 / 150
ع
En
A+
A-