و قال بعض الحكماء الكاذب في نهاية البعد من الفضل و المرائي أسوأ حالا من الكاذب لأنه يكذب فعلا و ذاك يكذب قولا و الفعل آكد من القول فأما المعجب بنفسه فأسوأ حالا منهما لأنهما يريان نقص أنفسهما و يريدان إخفاءه و المعجب بنفسه قد عمي عن عيوب نفسه فيراها محاسن و يبديها. و قال هذا الحكيم أيضا ثم إن المرائي و الكاذب قد ينتفع بهما كملاح خاف شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 392ركابه الغرق من مكان مخوف من البحر فبشرهم بتجاوزه قبل أن يتجاوزه لئلا يضطربوا فيتعجل غرقهم. و قد يحمد رياء الرئيس إذا قصد أن يقتدى به في فعل الخير المعجب لا حظ له في سبب من أسباب المحمدة بحال. و أيضا فلأنك إذا وعظت الكاذب و المرائي فنفسهما تصدقك و تثلبهما لمعرفتهما بنفسهما و المعجب فلجهله بنفسه يظنك في وعظه لاغيا فلا ينتع بمقالك و إلى هذا المعنى أشار سبحانه بقوله أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ثم قال سبحانه فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ تنبيها على أنهم لا يعقلون لإعجابهم. و
قال ع ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
و في المثل إن إبليس قال إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها إذا أعجب بنفسه و استكثر عمله و نسي ذنوبه. و قالت الحكماء كما أن المعجب بفرسه لا يروم أن يستبدل به غيره كذلك المعجب بنفسه لا يريد بحاله بدلا و إن كانت رديئة. و أصل الإعجاب من حب الإنسان لنفسه و
قد قال ع حبك الشي ء يعمي و يصم و من عمي و صم تعذر عليه رؤية عيوبه و سماعها فلذلك وجب على الإنسان أن يجعل على نفسه عيونا تعرفه عيوبه نحو ما قال عمر أحب الناس إلي امرؤ أهدى إلي عيوبي. و يجب على الإنسان إذا رأى من غيره سيئة أن يرجع إلى نفسه فإن رأى ذلك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 393موجودفيها نزعها و لم يغفل عنها فما أحسن ما قال المتنبي
و من جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى(19/290)


و أما التيه و ماهيته فهو قريب من العجب لكن المعجب يصدق نفسه و هما فيما يظن بها و التياه يصدقها قطعا كأنه متحير في تيه و يمكن أن يفرق بينهما بأمر آخر و يقول إن المعجب قد يعجب بنفسه و لا يؤذي أحدا بذلك الإعجاب و التياه يضم إلى الإعجاب الغض من الناس و الترفع عليهم فيستلزم ذلك الأذى لهم فكل تائه معجب و ليس كل معجب تائها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 170394الْأَمْرُ قَرِيبٌ وَ الِاصْطِحَابُ قَلِيلٌهذه الكلمة تذكر بالموت و سرعة زوال الدنيا و قال أبو العلاء
نفسي و جسمي لما استجمعا صنعا شرا إلى فجل الواحد الصمدفالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا و تلك تزعم أن الظالم الجسدإذا هما بعد طول الصحبة افترقا فإن ذاك لأحداث الزمان يدو أصبح الجوهر الحساس في محن موصولة و استراح الآخر الجمد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 171395قَدْ أَضَاءَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِهذا الكلام جار مجرى المثل و مثله
و الشمس لا تخفى عن الأبصار
و مثله
إن الغزالة لا تخفى عن البصر
و قال ابن هانئ يمدح المعتز
فاستيقظوا من رقدة و تنبهوا ما بالصباح عن العيون خفاءليست سماء الله ما ترونها لكن أرضا تحتويه سماء(19/291)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 172396تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِهذا حق لأن ترك الذنب هو الإحجام عنه و هذا سهل على من يعرف أثر الذنب على ما ذا يكون و هو أسهل من أن يواقع الإنسان الذنب ثم يطلب التوبة فقد لا يخلص داعيه إليها ثم لو خلص فكيف له بحصوله على شروطها و هي أن يندم على القبيح لأنه قبيح لا لخوف العقاب و لا لرجاء الثواب ثم لا يكفيه أن يتوب من الزنا وحده و لا من شرب الخمر وحده بل لا تصح توبته حتى تكون عامة شاملة لكل القبائح فيندم على ما قال و يود أنه لم يفعل و يعزم على ألا يعاود معصية أصلا و إن نقض التوبة عادت عليه الآثام القديمة و العقاب المستحق و لا الذي كان سقط بالتوبة على رأي كثير من أرباب علم الكلام و لا ريب أن ترك الذنب من الابتداء أسهل من طلب توبة هذه صفتها. و هذا الكلام جار مجرى المثل يضرب لمن يشرع في أمر يخاطر فيه و يرجو أن يتخلص منه فيما بعد بوجه من الوجوه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 173397كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ تَمْنَعُ أَكَلَاتٍأخذ هذا المعنى بلفظه الحريري فقال في المقامات رب أكلة هاضت الآكل و منعته مآكل و أخذه أبو العلاف الشاعر فقال في سنوره الذي يرثيه
أردت أن تأكل الفراخ و لا يأكلك الدهر أكل مضطهديا من لذيذ الفراخ أوقعه ويحك هلا قنعت بالقددكم أكلة خامرت حشا شره فأخرجت روحه من الجسد
نوادر المكثرين من الأكل(19/292)


و كان ابن عياش المنتوف يمازح المنصور أبا جعفر فيحتمله على أنه كان جدا كله فقدم المنصور لجلسائه يوما بطة كثيرة الدهن فأكلوا و جعل يأمرهم بالازدياد من الأكل لطيبها فقال ابن عياش قد علمت غرضك يا أمير المؤمنين إنما تريد أن ترميهم منها بالحجاب يعني الهيضة فلا يأكلوا إلى عشرة أيام شيئا. و في المثل أكلة أبي خارجة و قال أعرابي و هو يدعو الله بباب الكعبة اللهم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 398ميتة كميتة أبي خارجة فسألوه فقال أكل بذجا و هو الحمل و شرب وطبا من اللبن و يروى من النبيذ و هو كالحوض من جلود ينبذ فيه و نام فالشمس فمات فلقي الله تعالى شبعان ريان دفيئا. و العرب تعير بكثرة الأكل و تعيب بالجشع و الشره و النهم و قد كان فيهم قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية قال أبو الحسن المدائني في كتاب الأكلة كان يأكل في اليوم أربع أكلات أخراهن عظماهن ثم يتعشى بعدها بثريدة عليها بصل كثير و دهن كثير قد شغلها و كان أكله فاحشا يأكل فيلطخ منديلين أو ثلاثة قبل أن يفرغ و كان يأكل حتى يستلقي و يقول يا غلام ارفع فلأني و الله ما شبعت و لكن مللت. و كان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات أخراهن خبية بعسل و يوضع بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عناق أو جدي فيأتي عليه وحده. و كان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الأكل دخل إلى الرافقة فقال لصاحب طعامه أطعمنا اليوم من خرفان الرافقة و دخل الحمام فأطال ثم خرج فأكل ثلاثين خروفا بثمانين رغيفا ثم قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئا. و قال الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص قدم سليمان الطائف و قد عرفت استجاعته فدخل هو و عمر بن عبد العزيز و أيوب ابنه إلى بستان لي هناك يعرف بالرهط فقال ناهيك بمالك هذا لو لا جرار فيه قلت يا أمير المؤمنين إنها ليست بجرار و لكنها جرار الزبيب فضحك ثم جاء حتى ألقى صدره على غصن شجرة هناك و قال يا شمردل أ ما عندك شي ء تطعمني(19/293)


و قد كنت استعددت له فقلت بلى و الله عندي جدي كانت تغدو عليه حافلة و تروح عليه أخرى فقال عجل به فجئته شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 399به مشويا كأنه عكة سمن فأكله لا يدعو عليه عمر و لا ابنه حتى إذا بقي فخذ قال يا عمر هلم قال إني صائم ثم قال يا شمردل أ ما عندك شي ء قلت بلى دجاجات خمس كأنهن رئلان النعام فقال هات فأتيته بهن فكان يأخذ برجل الدجاجة حتى يعري عظا ثم يلقيها حتى أتى عليهن ثم قال ويحك يا شمردل أ ما عندك شي ء قلت بلى سويق كأنه قراضة الذهب ملتوت بعسل و سمن قال هلم فجئته بعس تغيب فيه الرأس فأخذه فلطم به جبهته حتى أتى عليه فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جب ثم التفت إلى طباخه فقال ويحك أ فرغت من طبيخك قال نم قال و ما هو قال نيف و ثمانون قدرا قال فأتني بها قدرا قدرا فعرضها عليه و كان يأكل من كل قدر لقمتين أو ثلاثا ثم مسح يده و استلقى على قفاه و أذن للناس و وضعت الموائد فقعد فأكل مع الناس كأنه لم يطعم شيئا. قالوا و كان الطعام الذي مات منه سليمان أنه قال لديراني كان صديقه قبل الخلافة ويحك لا تقطعني ألطافك التي كنت تلطفني بها على عهد الوليد أخي قال فأتيته يوما بزنبيلين كبيرين أحدهما بيض مسلوق و الآخر تين فقال لقمنيه فكنت أقشر البيضة و أقرنها بالتينة و ألقمه حتى أتى على الزنبيلين فأصابته تخمة عظيمة و مات و يحكى أن عمرو بن معديكرب أكل عنزا رباعية و فرقا من ذرة و الفرق ثلاثة آصع و قال لامرأته عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع فجعلت توقد تحته و تأخذ عضوا عضوا فتأكله فاطلعت فإذا ليس في القدر إلا المرق فقامت إلى كبش آخر فذبحته و طبخته ثم أقبل عمرو فثردت له في جفنة العجين و كفأت القدر عليها فمد يده و قال يا أم ثور دونك الغداء قالت قد أكلت فأكل الكبش كله ثم اضطجع و دعاها إلى الفراش فلم يستطع الفعل فقالت له كيف تستطيع و بيني و بينك كبشان. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 400و قد روي هذا الخبر عن بعض(19/294)

104 / 150
ع
En
A+
A-