قال إن عرضت له شهوة أسلف المعصية و سوف التوبة و إن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة هذا كما قيل أمدحه نقدا و يثيبني نسيئة و انفرج عن شرائط الملة قال أو فعل ما يقتضي الخروج عن الدين و هذا موجود في كثير من الناس إذا عرته المحن كفروا أو قال ما يقارب الكفر من التسخط و التبرم و التأفف. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 360قال يصف العبرة و لا يعتبر و يبالغ في الموعظة و لا يتعظ هذا هو المعنى الأول. قال فهو بالقول مدل و من العمل مقل هذا هو المعنى أيضا. قال ينافس فيما يفنى أي في شهوات الدنيا و لذاتها و يسامح فيما يبقى أي فالثواب. قال يرى الغنم مغرما و الغرم مغنما هذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفا. قال يخشى الموت و لا يبادر الفوت قد تكرر هذا المعنى في هذا الفصل. و كذلك قوله يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه... و إلى آخر الفصل كل مكرر المعنى و إن اختلفت الألفاظ و ذلك لاقتداره ع على العبارة و سعة مادة النطق عنده
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 147361لِكُلِّ امْرِئٍ عَاقِبَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةٌهكذا قرأناه و وجدناه في كثير من النسخ و وجدناه في كثير منها لكل أمر عاقبة و هو الأليق و مثل هذا المعنى قولهم في المثل لكل سائل قرار و قد أخذه الطائي فقال
فكانت لوعة ثم استقرت كذلك لكل سائلة قرار
و قال الكميت في مثل هذا
فالآن صرت إلى أمية و الأمور إلى مصاير
فأما الرواية الأولى و هي لكل امرئ فنظائرها في القرآن كثيرة نحو قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ و قوله يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى و غير ذلك من الآيات(19/275)
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 148362الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ وَ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ وَ إِثْمُ الرِّضَا بِهِلا فرق بين الرضا بالفعل و بين المشاركة فيه أ لا ترى أنه إذا كان ذلك الفعل قبيحا استحق الراضي به الذم كما يستحقه الفاعل له و الرضا يفسر على وجهين الإرادة و ترك الاعتراض فإن كان الإرادة فلا ريب أنه يستحق الذم لأن مريد القبيح فاعل للقبيح و إن كان ترك الاعتراض مع القدرة على الاعتراض فلا ريب أنه يستحق الذم أيضا لأن تارك النهي عن المنكر مع ارتفاع الموانع يستحق الذم. فأما قوله ع و على كل داخل في باطل إثمان فإن أراد الداخل فيه بأن يفعله حقيقة فلا شبهة في أنه يأثم من جهتين إحداهما من حيث إنه أراد القبيح. و الأخرى من حيث إنه فعله و إن كان قوم من أصحابنا قالوا إن عقاب المراد هو عقاب الإرادة. و إن أراد أن الراضي بالقبيح فقط يستحق إثمين أحدهما لأنه رضي به و الآخر لأنه كالفاعل فليس الأمر على ذلك لأنه ليس بفاعل للقبيح حقيقة ليستحق الإثم من جهة الإرادة و من جهة الفعلية جميعا فوجب إذن أن يحمل كلامه ع على الوجه الأول
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 149363لِكُلِّ مُقْبِلٍ إِدْبَارٌ وَ مَا أَدْبَرَ فَكَأَنْ لَمْ يَكُنْهذا معنى قد استعمل كثيرا جدا فمنه المثل
ما طار طير و ارتفع إلا كما طار وقع
و قول الشاعر
بقدر العلو يكون الهبوط و إياك و الرتب العالية
و قال بعض الحكماء حركة الإقبال بطيئة و حركة الإدبار سريعة لأن المقبل كالصاعد إلى مرقاة و مرقاة المدبر كالمقذوف به من علو إلى أسفل قال الشاعر
في هذه الدار في هذا الرواق على هذي الوسادة كان العز فانقرضا
آخر
إن الأمور إذا دنت لزوالها فعلامة الإدبار فيها تظهر(19/276)
و في الخبر المرفوع كانت ناقة رسول الله ص العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد على الصحابة ذلك فقال رسول الله ص إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه
و قال شيخ من همدان بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع بهدايا فمكثت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 364تحت قصره حولا لا أصل إليه ثم أشرف إشرافة من كوة له فخر له من حول العرش سجدا ثم رأيته بعد ذلك بحمص فقيرا يشتري اللحم و يسمطه خلف دابته و هو القائلأف لدنيا إذا كانت كذا أنا منها في هموم و أذى إن صفا عيش امرئ في صبحها جرعته ممسيا كأس القذى و لقد كنت إذا ما قيل من أنعم العالم عيشا قيل ذو قال بعض الأدباء في كلام له بينا هذه الدنيا ترضع بدرتها و تصرح بزبدتها و تلحف فضل جناحها و تغر بركود رياحها إذ عطفت عطف الضروس و صرخت صراخ الشموس و شنت غارة الهموم و أراقت ما حلبت من النعيم فالسعيد من لم يغتر بنكاحها و استعد لو شك طلاقها شاعر هو إهاب بن همام بن صعصعة المجاشعي و كان عثمانيا
لعمر أبيك فلا تكذبن لقد ذهب الخير إلا قليلاو قد فتن الناس في دينهم و خلى ابن عفان شرا طويلا
و قال أبو العتاهية
يعمر بيت بخراب بيت يعيش حي بتراث ميت
و قال أنس بن مالك ما من يوم و لا ليلة و لا شهر و لا سنة إلا و الذي قبله خير منه سمعت ذلك من نبيكم ع
فقال شاعر
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه(19/277)
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 365قيل لبعض عظماء الكتاب بعد ما صودر ما تفكر في زوال نعمتك فقال لا بد من الزوال فلان تزول و أبقى خير من أن أزول و تبقى. و من كلام الجاهلية الأولى كل مقيم شاخص و كل زائد ناقص. شاعرإنما الدنيا دول فراحل قيل نزل إذ نازل قيل رحللما فتح خالد بن الوليد عين التمر سأل عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فأتاها و سألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس و ما من شي ء يدب تحت الخورنق إلا و هو تحت أيدينا ثم غربت و قد رحمنا كل من نلم به و ما بيت دخلته حبرة إلا ستدخله عبرة ثم قالت فبينا نسوس الناس و الأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا و تصرفو جاءها سعد بن أبي وقاص مرة فلما رآها قال قاتل الله عدي بن زيد كأنه كان ينظر إليها حيث قال لأبيها
إن للدهر صرعة فاحذرنها لا تبيتن قد أمنت الدهوراقد يبيت الفتى معافى فيردى و لقد كان آمنا مسرورا
و قال مطرف بن الشخير لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك و لين رياشهم و لكن انظروا إلى سرعة ظعنهم و سوء منقلبهم و إن عمرا قصيرا يستوجب به صاحبه النار لعمر مشئوم على صاحبه. لما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد و قعد على فراشه قالت ابنة مروان له يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه و أقعدك عليها لمبلغ في عظتك إن عقلت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 150366لَا يَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وَ إِنْ طَالَ بِهِ الزَّمَانُقد تقدم كلامنا في الصبر. و قالت الحكماء الصبر ضربان جسمي و نفسي فالجسمي تحمل المشاق بقدر القوة البدنية و ليس ذلك بفضيلة تامة و لذلك قال الشاعر
و الصبر بالأرواح يعرف فضله صبر الملوك و ليس بالأجسام(19/278)
و هذا النوع إما في الفعل كالمشي و رفع الحجر أو في رفع الانفعال كالصبر على المرض و احتمال الضرب المفظع و إما النفسي ففيه تتعلق الفضيلة و هو ضربان صبر عن مشتهى و يقال له عفة و صبر على تحمل مكروه أو محبوب و تختلف أسماؤه بحسب اختلاف مواقعة فإن كان في نزول مصيبة لم يتعد به اسم الصبر و يضاده الجزع و الهلع و الحزن و إن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس و يضاده البطر و الأشر و الرفغ و إن كان في محاربة سمي شجاعة و يضاده الجبن و إن كان في إمساك النفس عن قضاء وطر الغضب سمي حلما و يضاده التذمر و الاستشاطة و إن كان في نائبة مضجرة سمي سعة صدر و يضاده الضجر و ضيق العطن و التبرم و إن كان في إمساك كلام في الضمير سمي كتمان السر و يضاده الإفشاء و إن كان عن فضول العيش سمي قناعة و زهدا و يضاده الحرص و الشره فهذه كلها أنواع الصبر و لكن اللفظ العرفي واقع على الصبر الجسماني و على ما يكون في نزول المصائب و تنفرد باقي الأنواع بأسماء تخصها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 151367مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلَالَةًهذا عند أصحابنا مختص باختلاف الدعوة في أصول الدين و يدخل في ذلك الإمامة لأنها من أصول الدين و لا يجوز أن يختلف قولان متضادان في أصول الدين فيكونا صوابا لأنه إن عني بالصواب مطابقة الاعتقاد للخارج فمستحيل أن يكون الشي ء في نفسه ثابتا منفيا و إن أراد بالصوابسقوط الإثم كما يحكى عن عبيد بن الحسن العنبري فإنه جعل اجتهاد المجتهدين في الأصول عذرا فهو قول مسبوق بالإجماع. و لا يحمل أصحابنا كلام أمير المؤمنين ع على عمومه لأن المجتهدين في فروع الشريعة و إن اختلفوا و تضادت أقوالهم ليسوا و لا واحد منهم على ضلال و هذا مشروح في كتبنا الكلامية في أصول الفقه(19/279)