أقل مما مضى فلا جرم يكون العمر قد أدبر. قوله المستسلم للدهر هذا آكد من له المقر للزمان لأنه قد يقر الإنسان لخصمه و لا يستسلم. قوله الذام للدنيا هذا وصف لم يستحدثه عند الكبر بل لم يزل عليه و لكن يجوز أن يزيد ذمه لها لأن الشيخ تنقص قواه التي يستعين بها على الدنيا و الدين جميعا و لا يزال يتأفف من الدنيا. قوله الساكن مساكن الموتى إشعار بأنه سيموت و هذا من قوله تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. قوله الظاعن عنها غدا لا يريد الغد بعينه بل يريد قرب الرحيل و الظعن. و هذا الكلام من أمير المؤمنين ع كلام من قد أيقن بالفراق و لا ريب في ظهور الاستكانة و الخضوع عليه و يدل أيضا على كرب و ضيق عطن لكونه لم يبلغ أربه من حرب أهل الشام و انعكس ما قدره بتخاذل أصحابه عنه و نفوذ حكم عمرو بن العاص فيه لحمق أبي موسى و غباوته و انحرافه أيضا. قوله إلى المولود هذه اللفظة بإزاء الوالد. قوله المؤمل ما لا يدرك لو قال قائل إنه كنى بذلك عن أنه لا ينال الخلافة بعد موتي و إن كان مؤملا لها لم يبعد و يكون ذلك إخبارا عن غيب و لكن الأظهر أنه لم يرد ذلك إنما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن و كذلك سائر الأوصاف التي تلي هذه اللفظة لا تخص الحسن ع بعينه بل هي و إن كانت له في الظاهر بل هي للناس كلهم في الحقيقة أ لا ترى إلى قوله بعدها السالك سبيل من قد هلك فإن كل واحد من الناس يؤمل أمورا لا يدركها و كل واحد من الناس سألك سبيل من هلك قبله. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 54قوله ع غرض الأسقام لأن الإنسان كالهدف لآفات الدنيا و أعراضها. قوله ع و رهينة الام الرهينة هاهنا المهزول يقال إنه لرهن و إنه لرهينة إذا كان مهزولا بالياء قال الراجز
أما ترى جسمي خلاء قد رهن هزلا و ما مجد الرجال في السمن(17/46)
و يجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن يقال للأسير أو للزمن أو للعاجز عند الرحيل أنه لرهينة و ذلك لأن الرهائن محتبسة عند مرتهنها. قوله و رمية المصائب الرمية ما يرمى. قوله و عبد الدنيا و تاجر الغرور و غريم المنايا لأن الإنسان طوع شهواته فهو عبد الدنيا و حركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له فهو تاجر الغرور لا محالة و لما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت غريما له يقتضيه ما لا بد له من أدائه. قوله و أسير الموت و حليف الهموم و قرين الأحزان و نصب الآفات و سريع الشهوات لما كان الإنسان مع الموت كما قال طرفة
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى و ثنياه باليد
كان أسيرا له لا محالة و لما كان لا بد لكل إنسان من الهم كان حليف الهموم و كذلك لا يخلو و لا ينفك من الحزن فكان قرينا له و لما كان معرضا للآفات كان نصبا لها و لما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعا لها. قوله و خليفة الأموات قد أخذه من قال إن أمرا ليس بينه و بين آدم إلا أب ميت لمعرق في الموت. و اعلم أنه عد من صفات نفسه سبعا و عد من صفات ولده أربع عشرة صفة فجعل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 55بإزاء كل واحدة مما له اثنتين فليلمح ذلكبعض ما قيل من الشعر في الدهر و فعله بالإنسان
و من جيد ما نعى به شاعر نفسه و وصف ما نقص الدهر من قواه قول عوف بن محلم الشيباني في عبد الله بن طاهر أمير خراسان(17/47)
يا ابن الذي دان له المشرقان و ألبس الأمن به المغربان إن الثمانين و بلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان و بدلتني بالشطاط انحنا و كنت كالصعدة تحت السنان و قاربت مني خطا لم تكن مقاربات و ثنت من عنان و عوضتني من زماع الفتى و همه هم الجبان الهدان و أنشأت بيني الورى عنانة من غير نسج العنان و لم تدع في لمستمتع إلا لساني و كفاني لسان أدعو به الله و أثني به على الأمير المصعبي الهجا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 56و من الشعر القديم الجيد في هذا المعنى قول سالم بن عونة الضبيلا يبعدن عصر الشباب و لا لذاته و نباته النضرو المشرفات من الخدور كإيماض الغمام يجوز بالقطرو طراد خيل مثلها التقتا لحفيظة و مقاعد الخمرلو لا أولئك ما حلفت متى عوليت في خرج إلى قبري هربت زبيبة أن رأت ثرمي و أن انحنى لتقادم ظهري من بعد ما عهدت فأدلفني يوم ي و ليلة تسري حتى كأني خاتل قنصا و المرء بعد تمامه يجري لا تهزئي مني زبيب فما في ذاك من عجب و لا سخرأ و لم تري لقمان أهلكه ما اقتات من سنة و من شهرو بقاء نسر كلما انقرضت أيامه عادت إلى نسرما طال من أمد على لبد رجعت محارته إلى قصرو لقد حلبت الدهر أشطره و عت ما آتي من الأمر(17/48)
أنا أستفصح قوله ما اقتات من سنة و من شهر جعل الزمان كالقوت له و من اقتات الشي ء فقد أكله و الأكل سبب المرض و المرض سبب الهلاك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 57أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ الآْخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ وَ الِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي غَيْرَ أَنِّي حَيْ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي فَصَدَّقَنِي رَأْيِي وَ صَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي فَأَفْضَى بِي إِلَى جَدٍّ لَا يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ وَ صِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَ كَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ
يزعني يكفني و يصدني وزعت فلانا و لا بد للناس من وزعة. و سوى لفظة تقصر إذا كسرت سينها و تمد إذا فتحتها و هي هاهنا بمعنى غير و من قبلها بمعنى شي ء منكر كقوله رب من أنضجت غيظا قلبه(17/49)
و التقدير غير ذكر إنسان سواي و يجوز أن تكون من موصولة و قد حذف أحد جزأي الصلة و التقدير عن ذكر الذي هو غيري كما قالوا في لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ أي هو أشد يقول ع إن فيما قد بان لي من تنكر الوقت و إدبار الدنيا و إقبال الآخرة شاغلا لي عن الاهتمام بأحد غيري و الاهتمام و الفكر في أمر الولد و غيره ممن أخلفه ورائي. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 58ثم عاد فقال ألا إن همي بنفسي يقتضي اهتمامي بك لأنك بعضي بل كلي فإن كان اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري لم تكن أنت داخلا في جملة من يصرفني همي بنفسعنهم لأنك لست غيري. فإن قلت أ فهذا الهم حدث لأمير المؤمنين ع الآن أو من قبل لم يكن عالما بأن الدنيا مدبرة و الآخرة مقبلة. قلت كلا بل لم يزل عالما عارفا بذلك و لكنه الآن تأكد و قوي بطريق علو السن و ضعف القوى و هذا أمر يحصل للإنسان على سبيل الإيجاب لا بد من حصوله لكل أحد و إن كان عالما بالحال من قبل و لكن ليس العيان كالخبر. و من مستحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبي إسحاق الصابئ
أقيك الردى إني تنبهت من كرى و سهو على طول المدى اعترياني فأثبت شخصا دانيا كان خافيا على البعد حتى صار نصب عياني هو الأجل المحتوم لي جد جده و كان يريني غفلة المتواني له نذر قد آذنتني بهجمة له لست منها آخذا بأمان و لا بد منه ممهلا أو معاجلا سيأتي فلا يثنني ثان
و أول هذه القصيدة و هو داخل له في هذا المعنى أيضا(17/50)