المطلب
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم و محالهم أبدا محالكفلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل و أصحابه فرجعت قريش و قد عظم فيهم بصبره و تعظيمه محارم الله عز و جل فبينا هو على ذلك و كان أكبر ولده و هو الحارث بن عبد المطلب قد بلغ الحلم أري عبد المطلب في المنام فقيل له احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم فاستيقظ فقال اللهم بين لي الشيخ فأري في المنام مرة أخرى شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 216احفر تكتم بين الفرث و الدم في مبحث الغراب في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات فنحر بقرة في الحزورة فأفلتت مجازرها بحشاشة نفسها حتى غلب عليها الموت في المسجد في موضع زمزم فاحتمل لحمها من مكانها و أقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث فبحث عن قرية النمل فقام عبد المطلب يحفرها فجاءته قريش فقالت له ما هذا الصنع إنا لم نكن نراك بالجهل لم تحفر في مسجدنا فقال عبد المطلب إني لحافر هذا البئر و مجاهد من صدني عنها فطفق يحفر هو و ابنه الحارث و ليس له يومئذ ولد غيره فيسفه عليهما الناس من قريش فينازعونهما و يقاتلونهما و تناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من زعيق نسبه و صدقه و اجتهاده في دينهم يومئذ حتى إذا أتعبه الحفر و اشتد عليه الأذى نذر إن وفى له عشرة من الولدان ينحر أحدهم ثم حفر فأدرك سيوفا دفنت في زمزم حين دفنت فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالت يا عبد المطلب أحذنا مما وجدت فقال عبد المطلب بل هذه السيوف لبيت الله ثم حفر حتى أنبط الماء فحفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف ثم بنى عليها حوضا و طفق هو و ابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه الحاج و يكسره قوم حسدة له من قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب حين يصبح فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فأري فقيل له قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل و هي لشارب حل و بل ثم كفيتهم(16/188)
فقام عبد المطلب حين اختلف قريش في المسجد فنادى بالذي أري ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه ذلك و سقايته ثم تزوج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط فقال اللهم إني شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 217كنت نذرت لك نحر أحدهم و إني أقرعينهم فأصيب بذلك من شئت فأقرع بينهم فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله ص و كان أحب ولده إليه فقال عبد المطلب اللهم هو أحب إليك أم مائة من الإبل فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله و كان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط. و روى الزبير أيضا قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن عثمان بن سليمان قال سمعت أبي يقول لما حفرت زمزم و أدرك منها عبد المطلب ما أدرك وجدت قريش في أنفسها مما أعطي عبد المطلب فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغدا و نثلت عادية حسدا فقال يا ابن أسد أما إنك تشرك في فضلها و الله لا يساعدني أحد عليها ببر و لا يقوم معي بارزا إلا بذلت له خير الصهر فقال خويلد بن أسد(16/189)
أقول و ما قولي عليهم بسبة إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر و ركضة جبريل على عهد آدمفقال عبد المطلب ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد. قال الزبير فأما ركضة جبريل فإن سعيد بن المسيب قال إن إبراهيم قدم بإسماعيل و أمه مكة فقال لهما كلا من الشجر و اشربا من الشعاب و فارقهما فلما ضاقت الأرض تقطعت المياه فعطشا فقالت له أمه اصعد و انصب في هذا الوادي فلا أرى موتك و لا ترى موتي ففعل فأنزل الله تعالى ملكا من السماء على أم إسماعيل فأمرها فصرحت به فاستجاب لها و طار الملك فضرب بجناحيه مكان زمزم فقال اشربا فكان سيحا يسيح و لو تركاه ما زال كذلك أبدا لكنها فرقت عليه من العطش فقرت له في السقاء و حفرت في البطحاء فلما نضب الماء طوياه ثم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 218هلك الناس و دفنته السيول ثم أري عبد المطلب في المنام أن احفر زمزم لا تثرب و لا تذم تروي الحجيج الأعظم ثم أري مرة أخرى أن احفر الرواء أعطيتها على رغم الأعداء ثم أري مرة أخرى أن احفر تم بين الأنصاب الحمر في قرية النمل فأصبح يحفر حيث أري فطفقت قريش يستهزءون به حتى إذا بدا عن الطي وجد فيها غزالا من ذهب و حلية سيف فضرب عليها بالسهام فخرج سهم البيت فكان أول حلي حلى به الكعبة. قال الزبير و كان حرب بن أمية بن عبد شمس نديم عبد المطلب و كان عبيد بن الأبرص تربه و بلغ عبيد مائة و عشرين سنة و بقي عبد المطلب بعده عشرين سنة. قال و قال بعض أهل العلم توفي عبد المطلب عن خمس و تسعين سنة و يقال كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة و هيبة الملك و فيه يقول الشاعر
إنني و اللات و البيت الذي لز بالهبرز عبد المطلب(16/190)
قال الزبير حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال بينا عبد المطلب يطوف بالبيت بعد ما أسن و ذهب بصره إذ زحمه رجل فقال من هذا فقيل رجل من بني بكر. قال فما منعه أن ينكب عني و قد رآني لا أستطيع لأن أنكب عنه فلما رأى بنيه قد توالوا عشرة قال لا بد لي من العصا فإن اتخذتها طويلة شقت علي و إن اتخذتها قصيرة قويت عليها و لكن ينحدب لها ظهري و الحدبة ذل فقال بنوه أو غير ذلك يوافيك كل يوم منا رجل تتوكأ عليه فتطوف في حوائجك قال و لذلك قال الزبير و مكارم عبد المطلب أكثر من أن يحاط بها كان سيد قريش غير مدافع نفسا و أبا و بيتا و جمالا و بهاء و كمالا و فعالا قال أحد بني كنانة يمدحه شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 21إني و ما سترت قريش و الذي تعزو لآل كلهن ظباءو و حق من رفع الجبال منيفة و الأرض مدا فوقهن سماءمثن و مهد لابن سلمى مدحة فيها أداء ذمامه و وفاء
قال الزبير فأما أبو طالب بن عبد المطلب و اسمه عبد مناف و هو كافل رسول الله ص و حاميه من قريش و ناصره و الرفيق به الشفيق عليه و وصي عبد المطلب فيه فكان سيد بني هاشم في زمانه و لم يكن أحد من قريش يسود في الجاهلية بمال إلا أبو طالب و عتبة بن ربيعة. قال الزبير أبو طالب أول من سن القسامة في الجاهلية في دم عمرو بن علقمة ثم أثبتتها السنة في الإسلام و كانت السقاية في الجاهلية بيد أبي طالب ثم سلمها إلى أخيه العباس بن عبد المطلب. قال الزبير و كان أبو طالب شاعرا مجيدا و كان نديمه في الجاهلية مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس و كان قد حبن فخرج ليتداوى بالحيرة فمات بهبالة فقال أبو طالب يرثيه(16/191)
ليت شعري مسافر ابن أبي عمرو و ليث يقولها المحزون كيف كانت مذاقة الموت إذ مت و ما ذا بعد الممات يكون رحل الركب قافلين إلينا و خليلي في مرمس مدفون بورك الميت الغريب كما بورك نضر الريحان و الزيت شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 220رزء ميت على هبالة قد حالت فياف من دونه و حزون مدرة يدفع الخصوم بأيد و بوجه يزينه العرنين كم خليل و صاحب و ابن عم و حميم قفت عليه المنون فتعزيت بالجلادة و الصبر و إني بصاحبي لقال الزبير فلما هلك مسافر نادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي و لذلك قال عمرو لعلي ع يوم الخندق حين بارزه إن أباك كان لي صديقا. قال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن نصر بن مزاحم عن معروف بن خربوذ قال كان أبو طالب يحضر أيام الفجار و يحضر معه النبي ص و هو غلام فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس و إذا لم يجي ء هزمت كنانة فقالوا لأبي طالب لا أبا لك لا تغب عنا ففعل. قال الزبير فأما الزبير بن عبد المطلب فكان من أشراف قريش و وجوهها و هو الذي استثنته بنو قصي على بني سهم حي هجا عبد الله بن الزبعرى بن قصي فأرسلت بنو قصي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس إلى بني سهم فقال لهم إن قومكم قد كرهوا أن يعجلوا عليكم فأرسلوني إليكم في هذا السفيه الذي هجاهم في غير ذنب اجترموا إليه فإن كان ما صنع عن رأيكم فبئس الرأي رأيكم و إن كان عن غير رأيكم فادفعوه إليهم فقال القوم نبرأ إلى الله أن يكون عن رأينا قال فأسلموه إليهم فقال بعض بني سهم إن شئتم فعلنا على أن من هجانا منكم دفعتموه إلينا فقال عتبة ما يمنعني أن أقول ما تقول إلا أن الزبير بن عبد المطلب غائب بالطائف شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 221و قد عرفتنه سيفرغ لهذا الأمر فيقول و لم أكن أجعل الزبير خطرا لابن الزبعرى فقال قائل منهم أيها القوم ادفعوه إليهم فلعمري أن لكم مثل الذي عليكم فكثر في ذلك الكلام و اللغط فلما رأى العاص بن وائل(16/192)