عاما أن يكون مع الشر المعقب للموت خير البتة. قوله من عاملها أي من العامل لها. قوله طرداء الموت جمع طريد أي يطردكم عن أوطانكم و يخرجكم منها لا بد من ذلك إن أقمتم أخذكم و إن هربتم أدرككم. و قال الراوندي طرداء هاهنا جمع طريدة و هي ما طردت من الصيد أو الوسيقة و ليس بصحيح لأن فعيلة بالتأنيث لا تجمع على فعلاء و قال النحويون إن قوله تعالى وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ جاء على خليف لا على خليفة و أنشدوا لأوس بن حجر بيتا استعملها جميعا فيه و هو
إن من القوم موجودا خليفته و ما خليف أبي ليلى بموجود
قوله ألزم لكم من ظلكم لأن الظل لا تصح مفارقته لذي الظل ما دام في الشمس و هذا من الأمثال المشهورة. قوله معقود بنواصيكم أي ملازم لكم كالشي ء المعقود بناصية الإنسان أين ذهب ذهب منه. و قال الراوندي أي الموت غالب عليكم قال تعالى فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأقْدامِ فإن الإنسان إذا أخذ بناصيته لا يمكنه الخلاص و ليس بصحيح لأنه لم يقل أخذ بنواصيكم. قوله و الدنيا تطوى من خلفكم من كلام بعض الحكماء الموت و الناس كسطور شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 167في صحيفة يقرؤها قارئ و يطوي ما يقرأ فكلما ظهر سطر خفي سطر. ثم أمره بأن يجمع بين حسن الظن بالله و بين الخوف منه و هذا مقام جليل لا يصل إليه إلا كل ضامر مهزول و قد تقدم كلامنا فيه و
قال علي بن الحسين ع لو أنزل الله عز و جل كتابا أنه معذب رجلا واحدا لرجوت أن أكونه و أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه أو أنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهادا لئلا أرجع إلى نفسي بلائمة
ثم قال وليتك أعظم أجنادي يقال للأقاليم و الأطراف أجناد تقول ولي جند الشام و ولي جند الأردن و ولي جند مصر. قوله فأنت محقوق كقولك حقيق و جدير و خليق قال الشاعر
و إني لمحقوق بألا يطولني نداه إذا طاولته بالقصائد(16/143)
و تنافح تجالد نافحت بالسيف أي خاصمت به. قوله و لو لم يكن إلا ساعة من النهار المراد تأكيد الوصاة عليه أن يخالف على نفسه و ألا يتبع هواها و أن يخاصم عن دينه و أن ذلك لازم له و واجب عليه و يلزم أن يفعله دائما فإن لم يستطع فليفعله و لو ساعة من النهار و ينبغي أن يكون هذا التقييد مصروفا إلى المنافحة عن الدين لأن الخصام في الدين قد يمنعه عنه مانع فأما أمره إياه أن يخالف على نفسه فلا يجوز صرف التقييد إليه لأنه يشعر بأنه مفسوح له أن يتبع هوى نفسه في بعض الحالات و ذلك غير جائز بخلاف المخاصمة و النضال عن المعتقد. قال و لا تسخط الله برضا أحد من خلقه فإن في الله خلفا من غيره و ليس من الله خلف في غيره أخذه الحسن البصري فقال لعمر بن هبيرة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 168أمير العراق إن الله مانعك من يزيد و لم يمنعك يزيد من الله يعني يزيد بن عبد الملك. ثم أمره بأن يصلي الصلالوقتها أي في وقتها و نهاه أن يحمله الفراغ من الشغل على أن يعجلها قبل وقتها فإنها تكون غير مقبولة أو أن يحمله الشغل على تأخيرها عن وقتها فيأثم. و من كلام هشام بن عقبة أخي ذي الرمة و كان من عقلاء الرجال قال المبرد في الكامل حدثني العباس بن الفرج الرياشي بإسناده قال هشام لرجل أراد سفرا اعلم أن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضل الزاد و يهر دونهم فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل و إياك و تأخير الصلاة عن وقتها فإنك مصليها لا محالة فصلها و هي تقبل منك. قوله و اعلم أن كل شي ء من عملك تبع لصلاتك فيه شبه من قول رسول الله ص الصلاة عماد الإيمان و من تركها فقد هدم الإيمان
و قال ص أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن سهل عليه كان ما بعده أسهل و إن اشتد عليه كان ما بعده أشد(16/144)
و مثل قوله و لا تسخط الله برضا أحد من خلقه ما رواه المبرد في الكامل عن عائشة قالت من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه و بين الناس و من أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس. و مثل هذا ما رواه المبرد أيضا قال لما ولي الحسن بن زيد بن الحسن المدينة قال لابن هرمة إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك فقد رزقني شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 169الله عز و جل بولادة نبيه ص الممادح و جنبني المقابح و إن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حق الله و أنا أقسم بالله لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمر و ا للسكر و لأزيدن لموضع حرمتك بي فليكن تركك لها لله عز و جل تعن عليه و لا تدعها للناس فتوكل إليهم فقال ابن هرمة
نهاني ابن الرسول عن المدام و أدبني بآداب الكرام و قال لي اصطبر عنها و دعها لخوف الله لا خوف الأنام و كيف تصبري عنها و حبي لها حب تمكن في عظامي أرى طيب الحلال علي خبثا و طيب النفس في خبث الحرام
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 170وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ فَإِنَّهُ لَا سَوَاءَ إِمَامُ الْهُدَى وَ إِمَامُ الرَّدَى وَ وَلِيُّ النَّبِيِّ وَ عَدُوُّ النَّبِيِّ وَ لَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِك أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ وَ أَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللَّهُ بِشِرْكِهِ وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ عَالِمِ اللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ
الإشارة بإمام الهدى إليه نفسه و بإمام الردى إلى معاوية و سماه إماما كما سمى الله تعالى أهل الضلال أئمة فقال وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ثم وصفه بصفة أخرى و هو أنه عدو النبي ص ليس يعني بذلك أنه كان عدوا أيام حرب النبي ص لقريش بل يريد أنه الآن عدو النبي ص(16/145)
لقوله ص له ع و عدوك عدوي و عدوي عدو الله و أول الخبر وليك وليي و وليي ولي الله
و تمامه مشهور و لأن دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه من فلتات لسانه و من أفعاله و قد قال أصحابنا في هذا المعنى أشياء كثيرة فلتطلب من كتبهم خصوصا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 171من كتب شيخنا أبي عبد الله و من كتب الشيخين أبي جعفر الإسكافي و أبي القاسم البلخي و ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم. ثم قال ع إن رسول الله ص قال إني لا أخاف على أمتي مؤمنا و لا مشركا أي و لا مشركا يظهر الشرك قال لأن المؤمن يمنعه الله بإيمانه أن يضل الناس و المشرك مظهر الشرك يقمعه الله بإظهار شركه و يخذله و يصرف قلوب الناس عن اتباعه لأنهم ينفرون منه لإظهاره كلمة الكفر فلا تطمئن قلوبهم إليه و لا تسكن نفوسهم إلى مقالته و لكني أخاف على أمتي المنافق الذي يسر الكفر و الضلال و يظهر الإيمان و الأفعال الصالحة و يكون مع ذلك ذا لسن و فصاحة يقول بلسانه ما تعرفون صوابه و يفعل سرا ما تنكرونه لو اطلعتم عليه و ذاك أن من هذه صفته تسكن نفوس الناس إليه لأن الإنسان إنما يحكم بالظاهر فيقلده الناس فيضلهم و يوقعهم في المفاسد
كتاب المعتضد بالله(16/146)
و من الكتب المستحسنة الكتاب الذي كتبه المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله في سنة أربع و ثمانين و مائتين و وزيره حينئذ عبيد الله بن سليمان و أنا أذكره مختصرا من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري. قال أبو جعفر و في هذه السنة عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر و أمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس فخوفه عبيد الله بن سليمان اضطراب العامة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 172و أنه لا يأمن أن تكون فتنة فلم يلتفت إليه فكان أول شي ء بدأ به المعتضد من ذلك التقدم إلى الع بلزوم أعمالهم و ترك الاجتماع و العصبية و الشهادات عند السلطان إلا أن يسألوا و منع القصاص عن القعود على الطرقات و أنشأ هذا الكتاب و عملت به نسخ قرئت بالجانبين من مدينة السلام في الأرباع و المحال و الأسواق يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منه و منع القصاص من القعود في الجانبين و منع أهل الحلق من القعود في المسجدين و نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع و غيره و بمنع القصاص و أهل الحلق من القعود و نودي إن الذمة قد برئت ممن اجتمع من الناس في مناظرة أو جدال و تقدم إلى الشراب الذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية و لا يذكروه بخير و كانت عادتهم جارية بالترحم عليه و تحدث الناس أن الكتاب الذي قد أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ و قيل إن عبيد الله بن سليمان صرفه عن قراءته و أنه أحضر يوسف بن يعقوب القاضي و أمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم المعتضد عليه فمضى يوسف فكلم المعتضد في ذلك و قال له إني أخاف أن تضطرب العامة و يكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة فقال إن تحركت العامة أو نطقت وضعت السيف فيها فقال يا أمير المؤمنين(16/147)