شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 161و السائلون هاهنا هم الرقاب المذكورون في الآية و هم المكاتبون يتعذر عليهم أداء مال الكتابة فيسألون الناس ليتخلصوا من ربقة الرق و قيل هم الأسارى يطلبون فكاك أنفسهم و قيل بل المراد بالرقاب في الآية الرقيق يسأل أن يبتاعه الأغني فيعتقوه و المدفوعون هاهنا هم الذين عناهم الله تعالى في الآية بقوله وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هم فقراء الغزاة سماهم مدفوعين لفقرهم و المدفوع و المدفع الفقير لأن كل أحد يكرهه و يدفعه عن نفسه و قيل هم الحجيج المنقطع بهم سماهم مدفوعين لأنهم دفعوا عن إتمام حجهم أو دفعوا عن العود إلى أهلهم. فإن قلت لم حملت كلام أمير المؤمنين ع على ما فسرته به قلت لأنه ع إنما أراد أن يذكر الأصناف المذكورة في الآية فترك ذكر المؤلفة قلوبهم لأن سهمهم سقط بعد موت رسول الله ص فقد كان يدفع إليهم حين الإسلام ضعيف و قد أعزه الله سبحانه فاستغنى عن تأليف قلوب المشركين و بقيت سبعة أصناف و هم الفقراء و المساكين و العاملون عليها و الرقاب و الغارمون و في سبيل الله و ابن السبيل. فأما العاملون عليها فقد ذكرهم ع في قوله و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا فبقيت ستة أصناف أتى ع بألفاظ القرآن في أربعة أصناف منها و هي الفقراء و المساكين و الغارم و ابن السبيل و أبدل لفظتين و هما الرقاب و في سبيل الله بلفظتين و هما السائلون و المدفوعون. فإن قلت ما يقوله الفقهاء في الصدقات هل تصرف إلى الأصناف كلها أم يجوز صرفها إلى واحد منها. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1قلت أما أبو حنيفة فإنه يقول الآية قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة فهي مختصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها كأنه تعالى قال إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك إنما الخلافة لقريش فيجوز أن تصرف الصدقة إلى الأصناف كلها و يجوز أن تصرف إلى بعضها و هو مذهب ابن عباس و حذيفة و جماعة من الصحابة و التابعين و أما الشافعي فلا يرى صرفها إلا(16/138)
إلى الأصناف المعدودة كلها و به قال الزهري و عكرمة. فإن قلت فمن الغارم و ابن السبيل. قلت الغارمون الذين ركبتهم الديون و لا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب و قيل هم الذين يحملون الحمالات فدينوا فيها و غرموا و ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله فهو و إن كان غنيا حيث ماله موجود فقير حيث هو بعيد. و قد سبق تفسير الفقير و المسكين فيما تقدم. قوله فقد أحل بنفسه الذل و الخزي أي جعل نفسه محلا لهما و يروى فقد أخل بنفسه بالخاء المعجمة و لم يذكر الذل و الخزي أي جعل نفسه مخلا و معناه جعل نفسه فقيرا يقال خل الرجل إذا افتقر و أخل به غيره و بغيره أي جعل غيره فقيرا و روي أحل بنفسه بالحاء المهملة و لم يذكر الذل و الخزي و معنى أحل بنفسه أباح دمه و الرواية الأولى أصح لأنه قال بعدها و هو في الآخرة أذل و أخزى. و خيانة الأمة مصدر مضاف إلى المفعول به لأن الساعي إذا خان فقد خان الأمة كلها و كذلك غش الأئمة مصدر مضاف إلى المفعول أيضا لأن الساعي إذا غش في الصدقة فقد غش الإمام(16/139)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 27163- و من عهد له ع إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه حين قلده مصرفَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ الْكَبِيرَةِ وَ الظَّاهِرَةِ وَ الْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَ آجِلِ الآْخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَ الْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُفُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ(16/140)
إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ الدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 164فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ ولَا تَسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لَا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ وَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ وَ إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ وَ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ وَ لَا تُسْخِطِ اللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ وَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا وَ لَا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ وَ لَا تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لِاشْتِغَالٍ وَ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْ ءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ آس بينهم اجعلهم أسوة لا تفضل بعضهم على بعض في اللحظة و النظرة و نبه بذلك على وجوب أن يجعلهم أسوة في جميع ما عدا ذلك من العطاء و الإنعام و التقريب كقوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ. قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم الضمير في لهم راجع إلى الرعية لا إلى العظماء و قد كان سبق ذكرهم في أول الخطبة أي إذا سلكت هذا المسلك لم يطمع العظماء في أن تحيف على الرعية و تظلمهم و تدفع أموالهم(16/141)
إليهم فإن ولاة الجور شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 165هكذا يفعلون يأخذون مال هذا فيعطونه هذا و يجوز أن يرجع الضمير إلى العظماء أيتى لا يطمع العظماء في جورك في القسم الذي إنما تفعله لهم و لأجلهم فإن ولاة الجور يطمع العظماء فيهم أن يحيفوا في القسمة في الفي ء و يخالفوا ما حده الله تعالى فيها حفظا لقلوبهم و استمالة لهم و هذا التفسير أليق بالخطابة لأن الضمير في عليهم في الفقرة الثالثة عئد إلى الضعفاء فيجب أن يكون الضمير في لهم في الفقرة الثانية عائدا إلى العظماء. قوله فإن يعذب فأنتم أظلم أفعل هاهنا بمعنى الصفة لا بمعنى التفضيل و إنما يراد فأنتم الظالمون كقوله تعالى وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ و كقولهم الله أكبر. ثم ذكر حال الزهاد فقال أخذوا من الدنيا بنصيب قوي و جعلت لهم الآخرة و يروى أن الفضيل بن عياض كان هو و رفيق له في بعض الصحاري فأكلا كسرة يابسة و اغترفا بأيديهما ماء من بعض الغدران و قام الفضيل فحط رجليه في الماء فوجد برده فالتذ به و بالحال التي هو فيها فقال لرفيقه لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه من العيش و اللذة لحسدونا. و روي و المتجر المربح فالرابح فاعل من ربح ربحا يقال بيع رابح أي يربح فيه و المربح اسم فاعل قد عدي ماضيه بالهمزة كقولك قام و أقمته. قوله جيران الله غدا في آخرتهم ظاهر اللفظ غير مراد لأن البارئ تعالى ليس في مكان و جهة ليكونوا جيرانه و لكن لما كان الجار يكرم جاره سماهم جيران الله لإكرامه إياهم و أيضا فإن الجنة إذا كانت في السماء و العرش هو السماء العليا كان في الكلام محذوف مقدر أي جيران عرش الله غدا. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 166قوله فإنه يأتي بأمر عظيم و خطب جل بخير لا يكون معه شر أبدا و شر لا يكون معه خير أبدا نص صريح في مذهب أصحابنا في الوعيد و أن من دخل النار من جميع المكلفين فليس بخارج لأنه لو خرج منها لكان الموت قد جاءه بشر معه خير و قد نفى نفيا(16/142)