و هذا يدل على عصمتها لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها إن كان الفعل يقتضيه سارا له و مطيعا على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع على الدلالة على عصمتها بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأن أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة و ليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة و إنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك قال الذي يدل على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي أ لا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه و لهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة لأن علمه أقوى من الشهادة و لهذا كان الإقرار أقوى من البينة من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن و إذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدم العلم على الجميع و إذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي لا يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات و الشهادات. و الذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابيا نازع النبي ص في ناقة فقال ع هذه لي و قد خرجت إليك من ثمنها فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد بذلك فقال النبي ص من أين علمت و ما حضرت ذلك قال لا و لكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله فقال قد أجزت شهادتك و جعلتها شهادتين فسمي ذا الشهادتين. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 274و هذه القصة شبيهة لقصة فاطمة ع لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له ص و شهد بذلك من حيث علم لأنه رسول الله ص و لا يقول إلا حقا و أمضى النبي ص ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع و تسليم الثمن فقد كانجب على من علم أن فاطمة ع لا تقول إلا حقا ألا يستظهر عليها بطلب(17/246)
شهادة أو بينة هذا و قد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين ع كتب بتسليم فدك إليها فاعترض عمر قضيته و خرق ما كتبه.
روى إبراهيم بن السعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع عن أبيه عن جده عن علي ع قال جاءت فاطمة ع إلى أبي بكر و قالت إن أبي أعطاني فدك و علي و أم أيمن يشهدان فقال ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها فخرجت فلقيت عمر فقال من أين جئت يا فاطمة قالت جئت من عند أبي بكر أخبرته أن رسول الله ص أعطاني فدك و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها و كتب لي بها فأخذ عمر منها الكتاب ثم رجع إلى أبي بكر فقال أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها قال نعم فقال إن عليا يجر إلى نفسه و أم أيمن امرأة و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه(17/247)
و قد روي هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة فمن أراد الوقوف عليها و استقصاءها أخذها من مواضعها. و ليس لهم أن يقولوا إنها أخبار آحاد لأنها و إن كانت كذلك فأقل أحوالها أن توجب الظن و تمنع من القطع على خلاف معناها و ليس لهم أن يقولوا كيف يسلم إليها شرحنهج البلاغة ج : 16 ص : 275فدك و هو يروي عن الرسول أن ما خلفه صدقة و ذلك لأنه لا تنافي بين الأمرين لأنه إنما سلمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل فلما وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث فلا اختلاف بين الأمرين. فأما إنكار صاحب الكتاب لكن فدك في يدها فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها و الأمر على ما قال فمن أين أنه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه و قد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله تعالى وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا النبي ص فاطمة ع فأعطاها فدك و إذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة. و قوله لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح و قد بينا أن قولها كان معلوما صحته و إنما قوله إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة أو ما يجري مجراها أو حصلت بينة أو إقرار فيقال له إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك و إما بينة فقد كانت على الحقيقة لأن شهادة أمير المؤمنين ع من أكبر البينات و أعدلها و لكن على مذهبك أنه لم تكن هناك بينة فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم و إن لم يكن عن مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام. فإن قال لأن قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم قيل له لم قلت ذلك أو ليس قد دللنا على أنها معصومة و أن الخطأ مأمون عليها ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية معلوما صحته على كل حال لأنها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادعته إذ الشبهة لا تدخل في مثله و قد أجمعت الأمة على أنها لم يظهر منها بعد(17/248)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 276رسول الله ص معصية بلا شك و ارتياب بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحيح و إن اختلفوا فمن قائل يقول مانعها مخطئ و آخر يقول هو أيضا مصيب لفقد البينة و إن علم صدقها. وما قوله إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفي و قصة خزيمة بن ثابت و قبول شهادته تبطل هذا الكلام. و أما قوله إن أمير المؤمنين ع حاكم يهوديا على الوجه الواجب في سائر الناس فقد روي ذلك إلا أن أمير المؤمنين لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله و إنما تبرع به و استظهر بإقامة الحجة فيه و قد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة ع فلذلك احتاجت في دعواها إلى بينة فأما إنكاره و ادعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين فلم يزد في ذلك إلا مجرد الدعوى و الإنكار و الأخبار مستفيضة بأنه ع شهد لها فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا و قوله إن الشاهد لها مولى لرسول الله ص هو المنكر الذي ليس بمعروف. و أما قوله إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين فطريف مع قوله فيما بعد إن التركة صدقة و لا خصم فيها فتدخل اليمين في مثلها أ فترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار الذي نبه صاحب الكتاب عليه و لو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين ع و هو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليه. و قوله إنها جوزت عند شهادة من شهد لها أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل لأن مثلها لا يتعرض للظنة و التهمة و يعرض قوله للرد و قد كان يجب أن تعلم من يشهد لها(17/249)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 277ممن لا يشهد حتى تكون دعواها على الوجه الذي يجب معه القبول و الإمضاء و من هو دونها في الرتبة و الجلالة و الصيانة من أفناء الناس لا يتعرض لمثل هذه الخطة و يتورطها للتجويز الذي لا أصل له و لا أمارة عليه. فأما إنكار أبي علي لأنكون النحل قبل ادعاء الميراث و عكسه الأمر فيه فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك لأن كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحح له مذهبا فلا يفسد على مخالفه مذهبا. ثم إن الأمر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا و الروايات كلها به واردة و كيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدعيه بعينه نحلا أ و ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار و كيف يجوز ذلك و الميراث يشركها فيه غيرها و النحل تنفرد به و لا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل لأنها في الابتداء طالبت بالنحل و هو الوجه الذي تستحق فدك منه فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث لأن للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه و سبب و هذا بخلاف قول أبي علي لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه و هي مختارة. و أما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز رد فدك على وجه النحل و ادعاؤه أنه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في يد أمير المؤمنين ع ليصرف غلاتها في وجوهها فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أي وجه وقع لأن فعله ليس بحجة و لو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين خصمين نصبهما أحدهما لفاطمة و الآخر لأبي بكر و ردها بعد قيام الحجة و وضوح الأمر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 278و مع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيو قد روى محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام بن زياد(17/250)