ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب فليت قبلك كان الموت صادفنا قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبواتجهمتنا رجال و استخف بنا مذ غبت عنا و كل الإرث قد غصبواقال فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم. قال المرتضى و قد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة و وجوه كثيرة فمن أرادها أخذها من مواضعها فكيف يدعي أنها ع كفت راضية و أمسكت قانعة لو لا البهت و قلة الحياء. قلت ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضي القضاة لأنه ادعى أنها نازعت و خاصمت ثم كفت لما سمعت الرواية و انصرفت تاركة للنزاع راضية بموجب الخبر المروي و ما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها و لا يدل على أنها بعد رواية الخبر و بعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه انصرفت ساخطة و لا في الحديث المذكور و الكلام المروي ما يدل على ذلك و لست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة بل أعلم أنها انصرفت ساخطة و ماتت و هي على أبي بكر واجدة و لكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 254ما يرويه في انصرافها ساخطة و موتها على ذلك السخط و أما هذا الخبر و هذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب. قال المرتضى رحمه الله فأما قوله إنه يجوز أن يبين ع أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الثة و لا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل و كل هذا بناء منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع و أن العمل به واجب و دون صحة ذلك خرط القتاد و إنما يجوز أن يبين من جهة أخرى إذا تساويا في الحجة و وقوع العمل فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما و إذا كان ورثة النبي ص متعبدين بألا يرثوه فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على الحكم و يشافههم به و يلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم(17/226)


بنقله و كل ذلك لم يكن. فأما قوله أ تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك فالجواب إنا لا نجوزه لأن كتاب الله أصدق منه و هو يدفع روايته و يبطلها فأما اعتراضه على قولنا إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و قولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا أفضل من أدب حسن و قولهم العلماء ورثة الأنبياء فعجيب لأن كل ما ذكر مقيد غير مطلق و إنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة و لا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال فبعد ما ذكره و عارض به لا يخفى على متأمل. فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ و أن المراد أنه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 255ورث العلم و الفضل و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فليس بشي ء يعول عليه لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر و العلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن يقتصر بهليه بل يجب أن يحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول مع ذلك إنا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ و يشير الْفَضْلُ الْمُبِينُ إلى العلم و المال جميعا فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما و قوله وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنه. فأما قوله في قصة زكريا إنه خاف على العلم أن يندرس لأن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و إنما خاف أن يضيع العلم فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه فقد بينا ن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و لا يبخلون بها فإنهم يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد(17/227)


و لا يعد ذلك بخلا و لا حرصا بل فضلا و دينا و ليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس و الضياع لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الذي هو الحجة على العباد و به تنزاح عللهم في مصالحهم فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله. فإن قيل فهبوا أن الأمر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس أ ليس لا بد أن يكون مجوزا أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله و أقاربه كما يجوز حفظه بغريب أجنبي فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه ألا يتعلموا العلم و لا يقوموا فيه مقامه فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته و يتعدى إلى غير قومه فيلحقه بذلك وصمة. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 256قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالاب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب و هو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني و إنما هو من ضرر دنياوي و الأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و منازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه و من كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون محمولا على مضار الدين لأنها هي جهة خوفهم و الغرض في بعثهم تحمل ما سواها من المضار فإذا قال النبي ص أنا خائف فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا لأن أحوالهم و بعثهم يقتضي ذلك فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا و أسبابها و التعفف عن منافعها و الرغبة في الآخرة و التفرد بالعمل لها لكنا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه و أليق بحاله و نضيفه إلى الآخرة دون الدنيا و إذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو في الأنبياء ع أوجب. قلت ينبغي ألا يقول المعترض فيلحقه بذلك وصمة فيجعل الخوف من هذه الوصمة بل يقول إنه خاف ألا يفلح بنو عمه و لا يتعلموا العلم لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك فالخوف على هذا(17/228)


الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها و هذا السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي و على هذا يندفع ما ذكره المرتضى على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و لا القول الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار فإنهم ما بعثوا لذلك و لا الغرض في بعثتهم ذلك و إنما بعثوا لأمر آخر و قد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا و تبعا لا على أنها الغرض و لا داخلة(17/229)


شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 257في الغرض و على أن قول المرتضى لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره لأنه محفوظ من الله فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة الإمام عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحد و صلاة الجمعة و الأعياد و هو و أصحابه يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره و إفساد الأحكام الشرعية لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الأديان و بدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف. و اعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي و قيل إنها قراءة زين العابدين و ابنه محمد بن علي الباقر ع و عثمان بن عفان و فسروه على وجهين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي و بعدي أي قلت الموالي و عجزوا عن إقامة الدين تقول قد خف بنو فلان أي قل عددهم فسأل زكريا ربه تقويتهم و مظاهرتهم بولي يرزقه. و ثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدامي أي خف الموالي و أنا حي و درجوا و انقرضوا و لم يبق منهم من به اعتضاد و على هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف. و قد فسر قوم قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي خفت الذين يلون الأمر من بعدي لأن الموالي يستعمل في الوالي و جمعه موال أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء و رؤساء يفسدون شيئا من الدين فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة و العلم كما أنعمت شرح نهج البغة ج : 16 ص : 258علي و اجعل الدين محفوظا به و هذا التأويل غير منكر و فيه أيضا دفع لكلام المرتضى. قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب في أن الميراث محمول على العلم بقوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة و إنما يرث ذلك غيره فبعيد من الصواب لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم على(17/230)

134 / 150
ع
En
A+
A-