لإذاعة العلم و نشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في البعثة فإن قيل هذا يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال لأن ذلك غاية الضن و البخل قلنا معاذ الله أن يستوي الحال لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن و الكافر و العدو و الولي و لا يصح ذلك في النبوة و علومها و ليس من الضن أن يأسى على بني عمه و هم من أهل الفساد أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي و يصرفوه في غير وجوهه المحبوبة بل ذلك غاية الحكمة و حسن التدبير في الدين لأن الدين يحظر تقوية الفساق و إمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة و ما يعد ذلك شحا و لا بخلا إلا من لا تأمل له. فإن قيل أ فلا جاز أن يكون خاف من بني عمه أن يرثوا علمه و هم من أهل الفساد على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس و يموهوا به عليهم قلنا لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه و صحف حكمته لأن ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز أو يكون هو العلم الذي يحل القلب فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى المال و يصحح أن الأنبياء يورثون أموالهم و ما في معناها و إن كان الثاني لم يخل هذا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره و أدائه أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعة و لا يجب إطلاع جميع الأمة عليه كعلم العواقب و ما يجري في مستقبل الأوقات و ما جرى مجرى ذلك و القسم الأول لا يجوز على النبي أن يخاف من وصوله إلى بني عمه و هم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك و تأديته إليهم و كأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته و القسم الثاني فاسد أيضا لأن(17/216)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 244هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته و يوقف عليه بإطلاعه و إعلامه و ليس هو مما يجب نشره في جميع الناس فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا ألا يلقيه إليه فإن ذلك في يده و لا يحتاج إلى أكثر من ذلك. قلت لعاكس أنعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ و يقول له و قد كان يجب إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله فينفقوها في الفساد أن يتصدق بها على الفقراء و المساكين فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة و يحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه. قال المرتضى رضي الله عنه و مما يدل على أن الأنبياء يورثون قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و الظاهر من إطلاق لفظة الميراث يقتضي الأموال و ما في معناها على ما دللنا به من قبل. قال و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الآية و قد أجمعت الأمة على عموم هذه اللفظة إلا من أخرجه الدليل فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة و لا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع. قلت أما قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فظاهرها يقتضي وراثة النبوة أو الملك أو العلم الذي قال في أول الآية وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً لأنه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود و في كتب اليهود و النصارى أن بني داود كانوا تسعة عشر و قد قال بعض المسلمين أيضا ذلك فأي معنى في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال و أما يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد هل هو حجة في شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 245الشرعيات أم لا فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيد و إن لم يثبت فلا مانع من صيص العموم بالخبر فإن الصحابة قد خصصت عمومات الكتاب بالأخبار في(17/217)
مواضع كثيرة. قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب بالخبر الذي رواه أبو بكر و ادعاؤه أنه استشهد عمر و عثمان و فلانا و فلانا فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف و الذي روي أن عمر استشهد هؤلاء النفر لما تنازع أمير المؤمنين ع و العباس رضي الله عنه في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث و إنما مقول مخالفينا في صحة الخبر الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة ع بالإرث على إمساك الأمة عن النكير عليه و الرد لقضيته. قلت صدق المرتضى رحمه الله فيما قال أما عقيب وفاة النبي ص و مطالبة فاطمة ع بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده و قيل إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان و أما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر و قد تقدم ذكر ذلك. قال المرتضى ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم و هو في حكم أخبار الآحاد و ليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجرى هذا المجرى لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم و إذا كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون. قال و هذا الكلام مبني على أن التخصيص للكتاب و السنة المقطوع بها لا يقع(17/218)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 246بأخبار الآحاد و هو المذهب الصحيح و قد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم و لا يرجع عن المعلوم بالمظنون قال و ليس لهم أن يقولوا إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم و إن كان الطريق مظنا و يشيروا إلى ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة و أنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا نسلمه و قد دل الدليل على فساده أعني قولهم خبر الواحد حجة في الشرع على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به. قلت أما قول المرتضى لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه لما خرج عن كونه خبرا واحدا و لما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به لأنه معلوم و الخبر مظنون. و لقائل أن يقول ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة حيث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله من الخلفاء فإنهم بدون هذا العدد كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية و من نظر في كتب التواريخ عرف ذلك فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك و إن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من رواية هذا العدد و نحوه فالخبر مثل ذلك. فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه قول انفرد به عن سائر الشيعة لأن من قبله من فقهائهم ما عولوا في الفقه إلا على أخبار الآحاد كزرارة و يونس و أبي بصير و ابني بابويه و الحلبي و أبي جعفر القمي و غيرهم ثم من كان في عصر المرتضى منهم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 247كأبي جعفر الطوسي و غيره و قد تكلمت في اعتبار الذريعة على ما أعتمد عليه في هذه المسألة و أما تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر أنه إذا صح ك خبر الواحد حجة في الشرع جاز تخصيص الكتاب به و هذا من فن أصول الفقه(17/219)
فلا معنى لذكره هنا. قال المرتضى رضي الله عنه و هذا يسقط قول صاحب الكتاب إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا لكان يجب أن ينصرف عن الإرث و ذلك لأن الشهادة و إن كانت مظنونة فالعمل بها يستند إلى علم لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة و لم تقرر العمل بخبر الواحد و ليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق و المرأة و الصبي و كثير ممن لا يجوز العمل بقوله فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع. قال و أبو بكر في حكم المدعي لنفسه و الجار إليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب و كذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة و ذلك أن أبا بكر و سائر المسلمين سوى أهل بيت الرسول ص يحل لهم الصدقة و يجوز أن يصيبوا فيها و هذه تهمة في الحكم و الشهادة. قال و ليس له أن يقول فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة لمثل ما ذكرتم.(17/220)