لم يقتصر على روايته هو وحده حتى استشهد عليه عمر و عثمان و طلحة و الزبير و سعدا و عبد الرحمن فشهدوا به فكان لا يحل لأبي بكر و قد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا و قد خبر رسول الله ص بأنها صدقة و ليست بميراث و أقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 238فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا أ ليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث فعلمه بما قال رسول الله ص مع شهادة غيره أقوى و لسنا نجعله مدعيا لأنه لم يدع ذلك لنفسه و إنما بين أنه ليس بميراث و أنه صدقة و لا يمتنع تخصيص ارآن بذلك كما يخص في العبد و القاتل و غيرهما و ليس ذلك بنقص في الأنبياء بل هو إجلال لهم يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال و صار ذلك من أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على الأولاد و الأهلين و لما سمعت فاطمة ع ذلك من أبي بكر كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الإرث فلما روى لها ما روى كفت فأصابت أولا و أصابت ثانيا. و ليس لأحد أن يقول كيف يجوز أن يبين النبي ص ذلك للقوم و لا حق لهم في الإرث و يدع أن يبين ذلك لمن له حق في الإرث مع أن التكليف يتصل به و ذلك لأن التكليف في ذلك يتعلق بالإمام فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره و يصير البيان له بيانا لغيره و إن لم يسمعه من الرسول لأن هذا الجنس من البيان يجب أن يكون بحسب المصلحة. قال ثم حكى عن أبي علي أنه قال أ تعلمون كذب أبي بكر في هذه الرواية أم تجوزون أن يكون صادقا قال و قد علم أنه لا شي ء يقطع به على كذبه فلا بد من تجويز كونه صادقا و إذا صح ذلك قيل لهم فهل كان يحل له مخالفة الرسول فإن قالوا لو كان صدقا لظهر و اشتهر قيل لهم إن ذلك من باب العمل و لا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة بل الاحد و الاثنان مثل سائر الأحكام و مثل الشهادات فإن قالوا نعلم أنه(17/211)
لا يصح لقوله تعالى في كتابه وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قيل لهم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 239و من أين أنه ورثه الأموال مع تجويز أن يكون ورثه العلم و الحكمة فإن قالوا إطلاق الميراث لا يكون ا في الأموال قيل لهم إن كتاب الله يبطل قولكم لأنه قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و الكتاب ليس بمال و يقال في اللغة ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئا أفضل من أدب حسن و قالوا العلماء ورثة الأنبياء و إنما ورثوا منهم العلم دون المال على أن في آخر الآية ما يدل على ما قلناه و هو قوله تعالى حاكيا عنه وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فنبه على أن الذي ورث هو هذا العلم و هذا الفضل و إلا لم كن لهذا القول تعلق بالأول فإن قالوا فقد قال تعالى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ و ذلك يبطل الخبر قيل لهم ليس في ذلك بيان المال أيضا و في الآية ما يدل على أن المراد النبوة و العلم لأن زكريا خاف على العلم أن يندرس و قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي يدل على ذلك لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال حرصا يتعلق خوفها بها و إنما أراد خوفه على العلم أن يضيع فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه و قوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يدل على أن المراد العلم و الحكمة لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة و إنما يرث ذلك غيره قال فأما من يقول إن المراد أنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه فركيك من القول لأن إجماع الصحابة يخالفه لأن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه لأنه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء و لا مزية لهم و لأن قوله ما تركناه صدقة جملة من الكلام مستقلة بنفسها كأنه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 240ع مع(17/212)
بيانه أنهم لا يورثون المال يبين أنه صدقة لأنه كان يجوز ألا يكون ميراثا و يصرف إلى وجه آخر غير الصدقة. قال فأما خبر السيف و البغلة و العمامة و غير ذلك فقد قال أبو علي إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين ع ع جهة الإرث كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه و كيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك و لا إرث له مع العم لأنه عصبة فإن كان وصل إلى فاطمة ع فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك و أزواج رسول الله ص و لوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله و لا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث ألا يحصل ذلك في يده لأنه قد يجوز أن يكون النبي ص نحله ذلك و يجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين و تصدق ببدله بعد التقويم لأن الإمام له أن يفعل ذلك. قال و حكى عن أبي علي في البرد و القضيب أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله و تقوية على المشركين فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية و رأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنه ع لم يكن قد نحله غيره في حياته ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي ص الميراث و تنازع أمير المؤمنين ع و العباس بعد موت فاطمة ع و أجاب عن ذلك بأن قال يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر و غيره للخبر. و قد روي أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن و قد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الإرث و يعرفه من يتقلد الأمر كما يعرف العلماء و الحكام من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث و قد بينا أن رواية أبي بكر مع الجماعة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 241أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته ع دين و هو أقوى من رواية سلمان و ابن مسعود لو رويا ذلك. قال و متى تعلقوا بعموم القرآن أريناهم از التخصيص بهذا الخبر كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء و قد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم(17/213)
الصدقة. هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة. ثم قال نحن نبين أولا ما يدل على أنه ص يورث المال و نرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح ثم نعطف على ما أورده و نتكلم عليه. قال رضي الله عنه و الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى مخبرا عن زكريا ع وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فخبر أنه خاف من بني عمه لأن الموالي هاهنا هم بنو العم بلا شبهة و إنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم و طرائقهم فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم و الذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم و النبوة على ما يقولون إن لفظة الميراث في اللغة و الشريعة لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من الموروث إلى الوارث كالأموال و ما في معناها و لا يستعمل في غير المال إلا تجوزا و اتساعا و لهذا لا يفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلا فلان و فلان يرث مع فلان بالظاهر و الإطلاق إلا ميراث الأموال و الأعراض دون العلوم و غيرها و ليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام و حقيقته إلى مجازه بغير دلالة و أيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا و متى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم(17/214)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 242و النبوة لم يكن للاشتراط معنى و كان لغوا و عبثا لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه و يرث مكانه فقد دخل الرضا و ما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه و سؤاله فلا مقتضي لاشتراطه أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول اللهم ابعث إلينا نبيا اجعله عاقلا و مكلفا فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله و صح أيضا لصحتها أن نبينا ص ممن يورث المال لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا ع لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال فمن مثبت للأمرين و ناف للأمرين. قلت إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب الغرر صورة الخبر الوارد في هذا الباب و هو الذي رواه أبو بكر لا نورث و لم يقل نحن معاشر الأنبياء لا نورث فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر و تصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين و إن كان رسول الله ص عنى نفسه خاصة بذلك فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا و غيره من الأنبياء إلا أنه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في شي ء بالنون. فإن قلت أ يصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا ثم يحتج بقصة زكريا بأن يقول إذا ثبت أن زكريا موروث ثت أن رسول الله ص يجوز أن يكون موروثا لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلهم في هذا الحكم. قلت و إن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه و لكن ثبوته يبعد لأن من نفى كون زكريا ع موروثا من الأمة إنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله ص قال نحن معاشر الأنبياء فإذا كان لم يقل هكذا لم يقل إن زكريا ع غير موروث شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 243قال المرتضى و مما يقوي ما قدمناه أن زكريا ع خاف بني عمه فطلب وارثا لأجل خوفه و لا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم و النبوة لأنه ع كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس هل للنبوة و أن يورث علمه و حكمه من ليس أهلا لهما و لأنه إنما بعث(17/215)