و روى أبو جعفر محمد بن حبيب قال كان علي ع قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس و اصطنعه لنفسه فلما قتل علي ع بقي زياد في عمله و خاف معاوية جانبه و علم صعوبة ناحيته و أشفق من ممالأته الحسن بن علي ع فكتب إليه من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد أما بعد فإنك عبد قد كفرت النعمة و استدعيت النقمة و لقد كان الشكر أولى بك من الكفر و إن الشجرة لتضرب بعرقها و تتفرع من أصلها إنك لا أم لك بل لا أب لك قد هلكت و أهلكت و ظننت أنك تخرج من قبضتي و لا ينالك سلطاني هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه و لا كل ذي رأي ينصح في مشورته أمس عبد و اليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية و إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة و البيعة و أسرع الإجابة فإنك أن تفعل فدمك حقنت و نفسك تداركت و إلا اختطفتك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 183بأضعف ريش و نلتك بأهون سعي و أقسم قسما مبرورا إ أوتى بك إلا في زمارة تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق و أبيعك عبدا و أردك إلى حيث كنت فيه و خرجت منه و السلام. فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا و جمع الناس و صعد المنبر فحمد الله ثم قال ابن آكلة الأكباد و قاتلة أسد الله و مظهر الخلاف و مسر النفاق و رئيس الأحزاب و من أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلي يرعد و يبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها و عما قليل تصيرها الرياح قزعا و الذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة أ فمن إشفاق علي تنذر و تعذر كلا و لكن ذهب إلى غير مذهب و قعقع لمن ربي بين صواعق تهامة كيف أرهبه و بيني و بينه ابن بنت رسول الله ص و ابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار و الله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأريته الكواكب نهارا و لأسعطته ماء الخردل دونه الكلام اليوم و الجمع غدا و المشورة بعد ذلك إن شاء الله ثم نزل. و كتب إلى معاوية أما بعد فقد وصل إلي كتابك يا معاوية و فهمت ما فيه فوجدتك(17/161)
كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب و يتعلق بأرجل الضفادع طمعا في الحياة إنما يكفر النعم و يستدعي النقم من حاد الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا فأما سبك لي فلو لا حلم ينهاني عنك و خوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء و أما تعييرك لي بسمية فإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة و أما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش و تتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 184القنابر أم هل سمعت بذئب أكله خروف فامض الآن لطيتك و اجتهد جهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره و لا أجتهد إلا فيما يسوؤك و ستعلم أينا الخاضع لصاحبه الطالع إليه و السلام. فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه و أحزنه و بعث إلى المغيرة بشعبة فخلا به و قال يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمني فانصحني فيه و أشر علي برأي المجتهد و كن لي أكن لك فقد خصصتك بسري و آثرتك على ولدي قال المغيرة فما ذاك و الله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء إلى الحدور و من ذي الرونق في كف البطل الشجاع قال يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي و هو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى و قد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا و أخشى ممالأته حسنا فكيف السبيل إليه و ما الحيلة في إصلاح رأيه قال المغيرة أنا له إن لم أمت إن زيادا رجل يحب الشرف و الذكر و صعود المنابر فلو لاطفته المسألة و ألنت له الكتاب لكان لك أميل و بك أوثق فاكتب إليه و أنا الرسول فكتب معاوية إليه من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فإن المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب و إنك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم و واصل العدو و حملك سوء ظنك بي و بغضك لي على أن عققت قرابتي و قطعت رحمي و بتت نسبي و حرمتي حتى كأنك لست أخي و ليس صخر بن حرب أباك و أبي و شتان ما بيني و بينك أطلب بدم ابن أبي العاص و أنت(17/162)
تقاتلني و لكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 18كتاركة بيضها بالعراء و ملحفة بيض أخرى جناحا
و قد رأيت أن أعطف عليك و لا أؤاخذك بسوء سعيك و أن أصل رحمك و أبتغي الثواب في أمرك فاعلم أبا المغيرة إنك لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع و قد أوثق للذبح فارجع رحمك الله إلى أصلك و اتصل بقومك و لا تكن كالموصول بريش غيره فقد أصبحت ضال النسب و لعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك فقد أصبحت على بينة من أمرك و وضوح من حجتك فإن أحببت جانبي و وثقت بي فأمره بأمره و إن كرهت جانبي و لم تثق بقولي ففعل جميل لا علي و لا لي و السلام. فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس فلما رآه زياد قربه و أدناه و لطف به فدفع إليه الكتاب فجعل يتأمله و يضحك فلما فرغ من قراءته وضعه تحت قدمه ثم قال حسبك يا مغيرة فإني أطلع على ما في ضميرك و قد قدمت من سفرة بعيدة فقم و أرح ركابك قال أجل فدع عنك اللجاج يرحمك الله و ارجع إلى قومك و صل أخاك و انظر لنفسك و لا تقطع رحمك قال زياد إني رجل صاحب أناة و لي في أمري روية فلا تعجل علي و لا تبدأني بشي ء حتى أبدأك ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس ادفعو البلاء ما اندفع عنكم و ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان و فكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي في كل عيد يذبحون و لقد أفنى هذان اليومان يوم الجمل و صفين ما ينيف على مائة ألف كلهم يزعم أنه طالب حق و تابع إمام و على بصيرة من أمره فإن كان الأمر هكذا فالقاتل و المقتول في الجنة كلاشرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 186ليس كذلك و لكن أشكل الأمر و التبس على القوم و إني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ فكيف لامرئ بسلامة دينه و قد نظرت في(17/163)
أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية و سأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته و مغبته فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله ثنزل و كتب جواب الكتاب أما بعد فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شعبة و فهمت ما فيه فالحمد لله الذي عرفك الحق و ردك إلى الصلة و لست ممن يجهل معروفا و لا يغفل حسبا و لو أردت أن أجيبك بما أوجبته الحجة و احتمله الجواب لطال الكتاب و كثر الخطاب و لكنك إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح و نية حسنة و أردت بذلك برا فستزرع في قلبي مودة و قبولا و إن كنت إنما أردت مكيدة و مكرا و فساد نية فإن النفس تأبى ما فيه العطب و لقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعبأ به الخطيب المدره فتركت من حضر لا أهل ورد و لا صدر كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل و أنا على أمثال ذلك قدير و كتب في أسفل الكتاب
إذا معشري لم ينصفوني وجدتني أدافع عني الضيم ما دمت باقياو كم معشر أعيت قناتي عليهم فلاموا و ألفوني لدى العزم ماضياو هم به ضاقت صدور فرجته و كنت بطبي للرجال مداوياأدافع بالحلم الجهول مكيدة و أخفى له تحت العضاه الدواهيافإن تدن مني أدن منك و إن تبن تجدني إذا لم تدن مني نائيا(17/164)
فأعطاه معاوية جميع ما سأله و كتب إليه بخط يده ما وثق به فدخل إليه الشام فقربه و أدناه و أقره على ولايته ثم استعمله على العراق. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 187و روى علي بن محمد المدائني قال لما أراد معاوية استلحاق زياد و قد قدم عليه الشام جمع الناس و صعد انبر و أصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت مرقاته و حمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد فمن كان عنده شهادة فليقم بها فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان و أنهم سمعوا ما أقر به قبل موته فقام أبو مريم السلولي و كان خمارا في الجاهلية فقال أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف فأتاني فاشتريت له لحما و خمرا و طعاما فلما أكل قال يا أبا مريم أصب لي بغيا فخرجت فأتيت بسمية فقلت لها إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه و جوده و قد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك فقالت نعم يجي ء الآن عبيد بغنمه و كان راعيا فإذا تعشى و وضع رأسه أتيته فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت فقلت له لما انصرفت كيف رأيت صاحبتك قال خير صاحبة لو لا ذفر في إبطيها. فقال زياد من فوق المنبر ا أبا مريم لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك. فلما انقضى كلام معاوية و مناشدته قام زياد و أنصت الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إن معاوية و الشهود قد قالوا ما سمعتم و لست أدري حق هذا من باطله و هو و الشهود أعلم بما قالوا و إنما عبيد أب مبرور و وال مشكور ثم نزل. و روى شيخنا أبو عثمان أن زيادا مر و هو والي البصرة بأبي العريان العدوي و كان شيخا مكفوفا ذا لسن و عارضة شديدة فقال أبو العريان ما هذه الجلبة قالوا زياد بن أبي سفيان قال و الله ما ترك أبو سفيان إلا يزيد و معاوية و عتبة و عنبسة و حنظلة و محمدا فمن أين جاء زياد فبلغ الكلام زيادا و قال له قائل لو سددت(17/165)