كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه لم يحمله بغضه لهما و غيظه منهما إلى أن بالغ في ذمهما به كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب و تدفق الألفاظ على الألسنة و لا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الإنصاف أن عمرا جعل دينه تبعا لدنيا معاوية و أنه ما بايعه و تابعه إلا على جعالة جعلها له و ضمان تكفل له بإيصاله و هي ولاية مصر مؤجلة و قطعة وافرة من المال معجلة و لولديه و غلمانه ما ملأ أعينهم. فأما قوله ع في معاوية ظاهر غيه فلا ريب في ظهور ضلاله و بغيه و كل باغ غاو. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 161أما مهتوك ستره فإنه كان كث الهزل و الخلاعة صاحب جلساء و سمار و معاوية لم يتوقر و لم يلزم قانون الرئاسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين و احتاج إلى الناموس و السكينة و إلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك موسوما بكل قبيح و كان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه إلا أنه كان يلبس الحرير و الديباج و يشرب في آنية الذهب و الفضة و يركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها و عليها جلال الديباج و الوشي و كان حينئذ شابا و عنده نزق الصبا و أثر الشبيبة و سكر السلطان و الإمرة و نقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام و أما بعد وفاة أمير المؤمنين و استقرار الأمر له فقد اختلف فيه فقيل إنه شرب الخمر في ستر و قيل إنه لم يشربه و لا خلاف في أنه سمع الغناء و طرب عليه و أعطى و وصل عليه أيضا. و روى أبو الفرج الأصفهاني قال قال عمرو بن العاص لمعاوية في قدمة قدمها إلى المدينة أيام خلافته قم بنا إلى هذا الذي قد هدم شرفه و هتك ستره عبد الله بن جعفر نقف على بابه فنسمع غناء جواريه فقاما ليلا و معهما وردان غلام عمرو و وقفا بباب عبد الله بن جعفر فاستمعا الغناء و أحس عبد الله بوقوفهما ففتح الباب و عزم على معاوية أن يدخل فدخل فجلس على سرير عبد الله فدعا عبد الله له و قدم إليه يسيرا من طعام فأكل فلما أنس(17/141)


قال يا أمير المؤمنين أ لا تأذن لجواريك أن يتممن أصواتهن فإنك قطعتها عليهن قال فليقلن فرفعن أصواتهن و جعل معاوية يتحرك قليلا قليلا حتى ضرب برجله السرير ضربا شديدا فقال عمرو قم أيها الرجل فإن الرجل الذي جئت لتلحاه أو لتعجب من امرئ أحسن حالا منك فقال مهلا فإن الكريم طروب. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 162أما قوله يشين الكريم بمجلسه و يسفه الحليم بخلطته فالأمر كذلك فإنه لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم و قذفهم و التعرض بذكر الإسلام و الطعن عليه و إنظهر الانتماء إليه و أما طلب عمرو فضله و اتباعه أثره اتباع الكلب للأسد فظاهر و لم يقل الثعلب غضا من قدر عمرو و تشبيها له بما هو أبلغ في الإهانة و الاستخفاف. ثم قال و لو بالحق أخذت أدركت ما طلبت أي لو قعدت عن نصره و لم تشخص إليه ممالئا به على الحق لوصل إليك من بيت المال قدر كفايتك. و لقائل أن يقول إن عمرا ما كان يطلب قدر الكفاية و علي ع ما كان يعطيه إلا حقه فقط و لا يعطيه بلدا و لا طرفا من الأطراف و الذي كان يطلب ملك مصر لأنه فتحها أيام عمر و وليها برهة و كانت حسرة في قلبه و حزازة في صدره فباع آخرته بها فالأولى أن يقال معناه لو أخذت بالحق أدركت ما طلبت من الآخرة. فإن قلت إن عمرا لم يكن علي ع يعتقد أنه من أهل الآخرة فكيف يقول له هذا الكلام قلت لا خلل و لا زلل في كلامه ع لأنه لو أخذ بالحق لكان معتقدا كون علي ع على الحق باعتقاده صحة نبوة رسول الله ص و صحة التوحيد فيصير تقدير الكلام لو بايعتني معتقدا للزوم بيعتي لك لكنت في ضمن ذلك طالبا الثواب فكنت تدركه في الآخرة. ثم قال مهددا لهما و متوعدا إياهما فإن يمكن الله منك و من ابن أبي سفيان و أقول لو ظفر بهما لما كان في غالب ظني يقتلهما فإنه كان حليما كريما و لكن كان يحبسهما ليحسم بحبسهما مادة فسادهما.(17/142)


شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 163ثم قال و إن تعجزا و تبقيا أي و إن لم أستطع أخذكما أو أمت قبل ذلك و بقيتما بعدي فما أمامكما شر لكما من عقوبة الدنيا لأن عذاب الدنيا منقطع و عذاب الآخرة غير منقطع. و ذكر نصر بن مزاحم في كتاب صفين هذا الكتاب بزيادة لم يذكرها اضي قال نصر و كتب علي ع إلى عمرو بن العاص من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص بن وائل شانئ محمد و آل محمد في الجاهلية و الإسلام سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإنك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه و يسفه الحليم بخلطته فصار قلبك لقلبه تبعا كما قيل وافق شن طبقة فسلبك دينك و أمانتك و دنياك و آخرتك و كان علم الله بالغا فيك فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره و حوايا فريسته و لكن لا نجاة من القدر و لو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت و قد رشد من كان الحق قائده فإن يمكن الله منك و من ابن آكلة الأكباد ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله ص و إن تعجزا و تبقيا بعد فالله حسبكما و كفى بانتقامه انتقاما و بعقابه عقابا و السلام
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 40164- و من كتاب له ع إلى بعض عمالهأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ وَ أَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَ أَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَ السَّلَامُ(17/143)


أخزيت أمانتك أذللتها و أهنتها و جردت الأرض قشرتها و المعنى أنه نسبه إلى الخيانة في المال و إلى إخراب الضياع و في حكمة أبرويز أنه قال لخازن بيت المال إني لا أحتملك على خيانة درهم و لا أحمدك على حفظ عشرة آلاف ألف درهم لأنك إنما تحقن بذلك دمك و تعمر به أمانتك و إنك إن خنت قليلا خنت كثيرا فاحترس من خصلتين من النقصان فيما تأخذ و من الزيادة فيما تعطي و اعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك و عمارة المملكة و العدة على العدو إلا و أنت أمين عندي من الموضع الذي هي فيه و من خواتمها التي هي عليها فحقق ظني في اختياري إياك أحقق ظنك في رجائك لي و لا تتعوض بخير شرا و لا برفعة ضعة و لا بسلامة ندامة و لا بأمانة خيانة. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 165و في الحديث المرفوع من ولي لنا عملا فليتزوج و ليتخذ مسكنا و مركبا و خادما فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلا غالا سارقا(17/144)


و قال عمر في وصيته لابن مسعود إياك و الهدية و ليست بحرام و لكني أخاف عليك الدالة. و أهدى رجل لعمر فخذ جزور فقبله ثم ارتفع إليه بعد أيام مع خصم له فجعل في أثناء الكلام يقول يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه كما يفصل فخذ الجزور فقضى عمر عليه ثم قام فخطب الناس و حرم الهدايا على الولاة و القضاة. و أهدى إنسان إلى المغيرة سراجا من شبه و أهدى آخر إليه بغلا ثم اتفقت لهما خصومة في أمر فترافعا إليه فجعل صاحب السراج يقول إن أمري أضوأ من السراج فلما أكثر قال المغيرة ويحك إن البغل يرمح السراج فيكسره. و مر عمر ببناء يبنى بآجر و جص لبعض عماله فقال أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها و روي هذا الكلام عن علي ع و كان عمر يقول على كل عامل أمينان الماء و الطين. و لما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر يا عدو الله و عدو كتابه أ سرقت مال الله تعالى قال أبو هريرة لست بعدو الله و لا عدو كتابه و لكني عدو من عاداهما و لم أسرق مال الله فضربه بجريدة على رأسه ثم ثناه بالدرة و أغرمه عشرة آلاف درهم ثم أحضره فقال يا أبا هريرة من أين لك عشرة آلاف درهم قال خيلي تناسلت و عطائي تلاحق و سهامي تتابعت قال عمر كلا و الله ثم تركه أياما ثم قال له أ لا تعمل قال لا قال قد عمل من هو خير منك يا أبا هريرة قال من هو قال يوسف الصديق فقال أبو هريرة إن يوسف عمل لمن لم يضرب رأسه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 166و ظهره و لا شتم عرضه و لا نزع ماله لا و الله لا أعمل لك أبدا. و كان زياد إذا ولى رجلا قال له خذ عه و سر إلى عملك و اعلم أنك محاسب رأس سنتك و أنك ستصير إلى أربع خصال فاختر لنفسك إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك و سلمتك من معرتنا أمانتك و إن وجدناك خائنا قويا استعنا بقوتك و أحسنا أدبك على خيانتك و أوجعنا ظهرك و أثقلنا غرمك و إن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين و إن وجدناك أمينا قويا زدنا رزقك و رفعنا(17/145)

117 / 150
ع
En
A+
A-