شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 144فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا غير. و الجهد الطاقة أي لم أستبطئك في بذل طاقتك و وسعك و من رواها الجهد بالفتح فهو من قولهم اجهد جهدك في كذا أي أبلغ الغاية و لا يقال هذا الحرف هاهنا إلا مفتوحا. ثم طيب ع نفسه بأقال له لو تم الأمر الذي شرعت فيه من ولاية الأشتر مصر لعوضتك بما هو أخف عليك مئونة و ثقلا و أقل نصبا من ولاية مصر لأنه كان في مصر بإزاء معاوية من الشام و هو مدفوع إلى حربه. ثم أكد ع ترغيبه بقوله و أعجب إليك ولاية. فإن قلت ما الذي بيده مما هو أخف على محمد مئونة و أعجب إليه من ولاية مصر قلت ملك الإسلام كله كان بيد علي ع إلا الشام فيجوز أن يكون قد كان في عزمه أن يوليه اليمن أو خراسان أو أرمينية أو فارس. ثم أخذ في الثناء على الأشتر و كان علي ع شديد الاعتضاد به كما كان هو شديد التحقق بولايته و طاعته. و ناقما من نقمت على فلان كذا إذا أنكرته عليه و كرهته منه. ثم دعا له بالرضوان و لست أشك بأن الأشتر بهذه الدعوة يغفر الله له و يكفر ذنوبه و يدخله الجنة و لا فرق عندي بينها و بين دعوة رسول الله ص و يا طوبى لمن حصل له من علي ع بعض هذا. قوله و أصحر لعدوك أي ابرز له و لا تستتر عنه بالمدينة التي أنت فيها أصحر الأسد من خيسه إذا خرج إلى الصحراء. و شمر فلان للحرب إذا أخذ لها أهبتها(17/126)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 35145- و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكرأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ وَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِ اسْتُشْهِدَ فَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُهُ وَلَداً نَاصِحاً وَ عَامِلًا كَادِحاً وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ رُكْناً دَافِعاً وَ قَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ وَ أَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ وَ دَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَ جَهْراً وَ عَوْداً وَ بَدْءاً فَمِنْهُمُ الآْتِي كَارِهاً وَ مِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً وَ مِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلًا أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجِلًا فَوَاللَّهِ لَوْ لَا طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي الشَّهَادَةِ وَ تَوْطِينِي نَفْسِي عَلَى الْمَنِيَّةِ لَأَحْبَبْتُ أَلَّا أَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ يَوْماً وَاحِداً وَ لَا أَلْتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً(17/127)
انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها و تملكه زمامها و اعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه و تطاوعه سلسة سهلة تتدفق من غير تعسف و لا تكلف حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال يوما واحدا و لا ألتقي بهم أبدا و أنت و غيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة جاءت القرائن و الفواصل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 146تارة مرفوعة و تارة مجرورة و تارة منصوبة فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بين و علامة واضحة و هذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ذكره عبد القاهر قال انظر إ سورة النساء و بعدها سورة المائدة الأولى منصوبة الفواصل و الثانية ليس فيها منصوب أصلا و لو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا و ظهر أثر التركيب و التأليف بينهما. ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية ثم انظر إلى الصفات و الموصوفات في هذا الفصل كيف قال ولدا ناصحا و عاملا كادحا و سيفا قاطعا و ركنا دافعا لو قال ولدا كادحا و عاملا ناصحا و كذلك ما بعده لما كان صوابا و لا في الموقع واقعا فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة و الخصائص الشريفة أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء و خرج أعرف بالحكمة و دقائق العلوم الإلهية من أفلاطون و أرسطو و لم يعاشر أرباب الحكم الخلقية و الآداب النفسانية لأن قريشا لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك و خرج أعرف بهذا الباب من سقراط و لم يرب بين الشجعان لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة و لم يكونوا ذوي حرب و خرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض قيل لخلف الأحمر أيما أشجع عنبسة و بسطام أم علي بن أبي طالب فقال إنما يذكر عنبسة و بسطام مع البشر و الناس لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة فقيل له فعلى كل حال قال و الله لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما و خرج أفصح من سحبان و قس و لم تكن قريش(17/128)
بأفصح العرب كان غيرها أفصح منها قالوا أفصح العرب جرهم و إن لم تكن لهم نباهة و خرج أزهد الناس في الدنيا و أعفهم مع أن قريشا ذوو حرص و محبة للدنيا و لا غرو فيمن كان شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 1محمد ص مربيه و مخرجه و العناية الإلهية تمده و ترفده أن يكون منه ما كان. يقال احتسب ولده إذا مات كبيرا و افترط ولده إذا مات صغيرا قوله فمنهم الآتي قسم جنده أقساما فمنهم من أجابه و خرج كارها للخروج كما قال تعالى كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ و منهم من قعد و اعتل بعلة كاذبة كما قال تعالى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً و منهم من تأخر و صرح بالقعود و الخذلان كما قال تعالى فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و المعنى أن حاله كانت مناسبة لحال النبي ص و من تذكر أحوالهما و سيرتهما و ما جرى لهما إلى أن قبضا علم تحقيق ذلك. ثم أقسم أنه لو لا طمعه في الشهادة لما أقام مع أهل العراق و لا صحبهم. فإن قلت فهلا خرج إلى معاوية وحده من غير جيش إن كان يريد الشهادة قلت ذلك لا يجوز لأنه إلقاء النفس إلى التهلكة و للشهادة شروط متى فقدت فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الأخرى
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 36148- و من كتاب له ع إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداءو هو جواب كتاب كتبه إليه عقيل(17/129)
فَسَرَّحْتُ إِلَيْهِ جَيْشاً كَثِيفاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ شَمَّرَ هَارِباً وَ نَكَصَ نَادِماً فَلَحِقُوهُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَ قَدْ طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلْإِيَابِ فَاقْتَتَلُوا شَيْئاً كَلَا وَ لَا فَمَا كَانَ إِلَّا كَمَوْقِفِ سَاعَةٍ حَتَّى نَجَا جَرِيضاً بَعْدَ مَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْمُخَنَّقِ وَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرُ الرَّمَقِ فَلَأْياً بِلَأْيٍ مَا نَجَا فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً وَ تَرْكَاضَهُمْ فِي الضَّلَالِ وَ تَجْوَالَهُمْ فِي الشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِي التِّيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ص قَبْلِي فَجَزَتْ قُرَيْشاً عَنِّي الْجَوَازِي فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ سَلَبُونِي سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّي وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأْيِي فِي الْقِتَالِ فَإِنَّ رَأْيِي قِتَالُ الْمُحِلِّينَ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ لَا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً وَ لَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً وَ لَا تَحْسَبَنَّ ابْنَ أَبِيكَ وَ لَوْ أَسْلَمَهُ النَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً وَ لَا مُقِرّاً لِلضَّيْمِ وَاهِناً وَ لَا سَلِسَ الزِّمَامِ لِلْقَائِدِ وَ لَا وَطِئَ الظَّهْرِ لِلرَّاكِبِ الْمُقْتَعِدِ وَ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي سَلِيمٍ(17/130)