و المعنى ربما كان بلوغ الأمل في الدنيا و الفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها و إذا كان كذلك كان الحرمان خيرا من الظفر. و منها قوله ليس كل عورة تظهر و لا كل فرصة تصاب يقول قد تكون عورة العدو مستترة عنك فلا تظهر و قد تظهر لك و لا يمكنك إصابتها. و قال بعض الحكماء الفرصة نوعان فرصة من عدوك و فرصة في غير عدوك فالفرصة من عدوك ما إذا بلغتها نفعتك و إن فاتتك ضرتك و في غير عدوك ما إذا أخطأك نفعه لم يصل إليك ضره شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 120و منها قوله فربما أخطأ البصير قصده و أصاب الأعمى رشده من هذا النحو قولهم في المثل مع الخواطئ سهم صائب و قولهم رمية من غير رام و قالوا في مثل اللفظة الأولى الجواد يكبو و الحسام قد ينبو و قالوا قد يهفو الحليم و يجهل العليم. ونها قوله أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته مثل هذا قولهم في الأمثال الطفيلية كل إذا وجدت فإنك على الجوع قادر و من الأمثال الحكمية ابدأ بالحسنة قبل السيئة فلست بمستطيع للحسنة في كل وقت و أنت على الإساءة متى شئت قادر. و منها قوله قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل هذا حق لأن الجاهل إذا قطعك انتفعت ببعده عنك كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك و هذا كما يقول المتكلمون عدم المضرة كوجود المنفعة و يكاد أن يبتني على هذا قولهم كما أن فعل المفسدة قبيح من البارئ فالإخلال باللطف منه أيضا يجب أن يكون قبيحا. و منها قوله من أمن الزمان خانه و من أعظمه أهانه مثل الكلمة الأولى قول الشاعر
و من يأمن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الأنامل
و قالوا احذر الدنيا ما استقامت لك و من الأمثال الحكمية من أمن الزمان ضيع ثغرا مخوفا و مثل الكلمة الثانية قولهم الدنيا كالأمة اللئيمة المعشوقة كلما ازددت لها عشقا و عليها تهالكا ازدادت إذلالا و عليك شطاطا. و قال أبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا و لا تتمم وصلا(17/106)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 121شيم الغانيات فيها فلا أدري لذا أنث اسمها الناس أم لو منها قوله ليس كل من رمى أصاب هذا معنى مشهور قال أبو الطيب
ما كل من طلب المعالي نافذا فيها و لا كل الرجال فحولا
و منها قوله إذا تغير السلطان تغير الزمان في كتب الفرس أن أنوشروان جمع عمال السواد و بيده درة يقلبها فقال أي شي ء أضر بارتفاع السواد و أدعى إلى محقه أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في فيه فقال بعضهم انقطاع الشرب و قال بعضهم احتباس المطر و قال بعضهم استياء الجنوب و عدم الشمال فقال لوزيره قل أنت فإني أظن عقلك يعادل عقول الرعية كلها أو يزيد عليها قال تغير رأي السلطان في رعيته و إضمار الحيف لهم و الجور عليهم فقال لله أبوك بهذا العقل أهلك آبائي و أجدادي لما أهلوك له و دفع إليه الدرة فجعلها في فيه. و منها قوله سل عن الرفيق قبل الطريق و عن الجار قبل الدار و قد روي هذا الكلام مرفوعا و في المثل جار السوء كلب هارش و أفعى ناهش. و في المثل الرفيق إما رحيق أو حريق(17/107)
إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 122وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنأَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ وَ لَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ وَ لَا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لَا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا وَ إِيَّاكَ وَ التَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ وَ الْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ وَ اجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلًا تَأْخُذُهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ وَ أَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ وَ يَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ اسْتَوْدِعِ اللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ وَ اسْأَلْهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَ الآْجِلَةِ وَ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ وَ السَّلَامُ(17/108)
نهاه أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا لأن ذلك من شغل أرباب الهزل و البطالة و قل أن يخلو ذلك من غيبة أو سخرية ثم قال و إن حكيت ذلك عن غيرك فإنه كما يستهجن الابتداء بذلك يستهجن حكايته عن الغير و ذلك كلام فصيح أ لا ترى أنه لا يجوز الابتداء بكلمة الكفر و يكره أيضا حكايتها و قال عمر لما نهاه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 123رسول الله ص أن يحلف بالله فما حلفت به ذاكرا و لا آثرا و لا حاكيا. و كان يقال من مازح استخف به و من كثر ضحكه قلت هيبته. فأما مشاورة النساء فإنه من فعل عجزة الرجال قال الفضل بن الربيع أيام الحرب ب الأمين و المأمون في كلام يذكر فيه الأمين و يصفه بالعجز ينام نوم الظربان و ينتبه انتباهة الذئب همه بطنه و لذته فرجه لا يفكر في زوال نعمة و لا يروي في إمضاء رأي و لا مكيدة قد شمر له عبد الله عن ساقه و فوق له أشد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد قد عبى له المنايا على متون الخيل و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف فكأنه هو قال هذا الشعر و وصف به نفسه و أخاه(17/109)
يقارع أتراك ابن خاقان ليله إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم فيصبح من طول الطراد و جسمه نحيل و أضحي في النعيم أصمم و همي كأس من عقار و قينة و همته درع و رمح و مخذم فشتان ما بيني و بين ابن خالد أمية في الرزق الذي الله يقو نحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا و إن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا و إنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء و يعتزم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل. قوله ع فإن رأيهن إلى أفن الأفن بالسكون النقص و المتأفن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 124المتنقص يقال فلان يتأفن فلانا أي يتنقصه و يعيبه و من رواه إلى أفن بالتحريك فهو ضعف الرأي أفن الرجل يأفن نا أي ضعف رأيه و في المثل إن الرقين تغطي أفن الأفين و الوهن الضعف. قوله و اكفف عليهن من أبصارهن من هاهنا زائدة و هو مذهب أبي الحسن الأخفش في زيادة من في الموجب و يجوز أن يحمل على مذهب سيبويه فيعنى به فاكفف عليهن بعض أبصارهن. ثم ذكر فائدة الحجاب و نهاه أن يدخل عليهن من لا يوثق به و قال إن خروجهن أهون من ذلك و ذلك لأن من تلك صفته يتمكن من الخلوة ما لا يتمكن منه من يراهن في الطرقات. ثم قال إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل كان لبعضهم بنت حسناء فحج بها و كان يعصب عينيها و يكشف للناس وجهها فقيل له في ذلك فقال إنما الحذر من رؤيتها الناس لا من رؤية الناس لها. قال و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها أي لا تدخلها معك في تدبير و لا مشورة و لا تتعدين حال نفسها و ما يصلح شأنها. فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة أي إنما تصلح للمتعة و اللذة و ليست وكيلا في مال و لا وزيرا في رأي. ثم أكد الوصية الأولى فقال لا تعد بكرامتها نفسها هذا هو قوله و لا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها. ثم(17/110)