الزَّمَانُ سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ وَ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 114 في بعض الروايات اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاءقد مضى لنا كلام شاف في الرزق. و روى أبو حيان قال رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها غلبة الدين عليه و كثرة العيال و قلة الصبر فوقع المأمون عليها أنت رجل فيك خلتان السخاء و الحياء فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك و أما الحياء فهو الذي بلغ بك إلى ما ذكرت و قد أمرنا لك بمائة ألف درهم فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك و إن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك و أنت كنت حدثتني و أنت على قضاء الرشيد
عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك إن رسول الله ص قال للزبير يا زبير إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له و من قلل قلل له(17/101)
قال الواقدي و كنت أنسيت هذا الحديث و كانت مذاكرته إياي به أحب من صلته. و اعلم أن هذا الفصل يشتمل على نكت كثيرة حكمية منها قوله الرزق رزقان رزق تطلبه و رزق يطلبك و هذا حق لأن ذلك إنما يكون على حسب ما يعلمه الله تعالى من مصلحة المكلف فتارة يأتيه الرزق بغير اكتساب و لا تكلف حركة و لا تجشم سعي و تارة يكون الأمر بالعكس. دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها و هو فقير شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 115لا مال له فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض فنزل عنها و ابتدرها غلمانه فخلصوها هر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع فأمرهم بحفرة فوجدوا فيه أموالا عظيمة و ذخائر لابن ياقوت ثم استلقى يوما آخر على ظهره في داره بشيراز التي كان ابن ياقوت يسكنها فرأى حية في السقف فأمر غلمانه بالصعود إليها و قتلها فهربت منهم و دخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب و تستخرج و تقتل فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت. و احتاج أن يفصل و يخيط ثيابا له و لأهله فقيل هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت و هو رجل منسوب إلى الدين و الخير إلا أنه أصم لا يسمع شيئا أصلا فأمر بإحضاره فأحضر و عنده رعب و هلع فلما أدخله إليه كلمه و قال أريد أن تخيط لنا كذا و كذا قطعة من الثياب فارتعد الخياط و اضطرب كلامه و قال و الله يا مولانا ما له عندي إلا أربعة صناديق ليس غيرها فلا تسمع قول الأعداء في فتعجب عماد الدولة و أمر بإحضار الصناديق فوجدها كلها ذهبا و حليا و جواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت. و أما الرزق الذي يطلبه الإنسان و يسعى إليه فهو كثير جدا لا يحصى و منها قوله ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى هذا من قول الله تعالى حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ(17/102)
مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. و من الشعر الحكمي في هذا الباب قول الشاعر
خلقان لا أرضاهما لفتى تيه الغنى و مذلة الفقر
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 116فإذا غنيت فلا تكن بطرا و إذا افتقرت فته على الدهو منها قوله إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك هذا من
كلام رسول الله ص يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت
و قال أبو العتاهية
ليس للمتعب المكادح من دنياه إلا الرغيف و الطمران
و منها قوله و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك يقول لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع و المكاسب فإنه لا فرق بينهما إلا أن هذا حصل و ذاك لم يحصل بعد و هذا فرق غير مؤثر لأن الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة و إنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته و لبسته و أما القنيات و المدخرات فلعلها ليست لك كما قال الشاعر
و ذي إبل يسقي و يحسبها له أخي تعب في رعيها و دءوب غدت و غدا رب سواه يسوقها و بدل أحجارا و جال قليبو منها قوله استدل على ما لم يكن بما كان فإن للأمور أشباها يقال إذا شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك. و قال أبو الطيب في سيف الدولة
ذكي تظنيه طليعة عينه يرى قلبه في يومه ما يرى غدا
و منها قوله و لا تكونن ممن لا تنفعه العظة... إلى قوله إلا بالضرب هو قول الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 11العبد يقرع بالعصا و الحر تكفيه الملامة(17/103)
و كان يقال اللئيم كالعبد و العبد كالبهيمة عتبها ضربها. و منها قوله اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاء هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع و الفائدة و قد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ فقال في خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا و سرنا جاءنا خبر قتل مصعب فأما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة و كان لنا إن شاء الله خيرة و أما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى حسن الصبر و كرم العزاء. و منها قوله من ترك القصد جار القصد الطريق المعتدل يعني أن خير الأمور أوسطها فإن الفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعدى هذه يسيرا وقع في هذه. و منها قوله الصاحب مناسب كان يقال الصديق نسيب الروح و الأخ نسيب البدن قال أبو الطيب
ما الخل إلا من أود بقلبه و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و منها قوله الصديق من صدق غيبه من هاهنا أخذ أبو نواس قوله في المنهوكة
هل لك و الهل خبر فيمن إذا غبت حضرأو ما لك اليوم أثر فإن رأى خيرا شكرأو كان تقصير عذر
و منها قوله الهوى شريك العمى هذا مثل قولهم حبك الشي ء يعمي و يصم قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 1و عين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
و منها قوله رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد هذا معنى مطروق قال الشاعر
لعمرك ما يضر البعد يوما إذا دنت القلوب من القلوب
و قال الأحوص
إني لأمنحك الصدود و إنني قسما إليك مع الصدود لأميل
و قال البحتري
و نازحة و الدار منها قريبة و ما قرب ثاو في التراب مغيب
و منها قوله و الغريب من لم يكن له حبيب يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب قال الشاعر(17/104)
أسرة المرء والداه و فيما بين جنبيهما الحياة تطيب و إذا وليا عن المرء يوما فهو في الناس أجنبي غريبو منها قوله من تعدى الحق ضاق بمذهبه يريد بمذهبه هاهنا طريقته و هذه استعارة و معناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها و طرق الباطل فيها المشاق و المضار و كان سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها و يتخبط في سلوكها. و منها قوله من اقتصر على قدره كان أبقى له هذا مثل
قوله رحم الله امرأ عرف قدره و لم يتعد طوره
و قال من جهل قدره قتل نفسه
و قال أبو الطيب
و من جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 119و منها قوله أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين الله سبحانه هذا من قول الله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها. و منها قوله فمن لم يبالك فهو عك أي لم يكترث بك و هذه الوصاة خاصة بالحسن ع و أمثاله من الولاة و أرباب الرعايا و ليست عامة للسوقة من أفناء الناس و ذلك لأن الوالي إذا أنس من بعض رعيته أنه لا يباليه و لا يكترث به فقد أبدى صفحته و من أبدى لك صفحته فهو عدوك و أما غير الوالي من أفناء الناس فليس أحدهم إذا لم يبال الآخر بعدو له. و منها قوله قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا هذا مثل قول القائل
من عاش لاقى ما يسوء من الأمور و ما يسرو لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در(17/105)