و كنت كاتبا بديوان الخلافة و الوزير حينئذ نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد رحمه الله فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة محمد بن محمد أمير البحرين على البر ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة بالمراكب البحرية و هرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان و امتلأت بغداد من عرب محمد بن محمد و أصحاب الهرمزي و كانت تلك الأيام أياما غراء زاهرة لما أفاض المستنصر على الناس من عطاياه و الوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب ديوانه فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير أبياتا سنحت على البديهة و أنا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة و كان رحمه الله لا يزال يذكرها و ينشدها و يستحسنها(17/96)
يا أحمد بن محمد أنت الذي علقت يداه بأنفس الأعلاق ما أملت بغداد قبلك أن ترى أبدا ملوك البحر في الأسواق ولهوا عليها غيرة و تنافسوا شغفا بها كتنافس العشاق و غدت صلاتك في رقاب سراتهم و نداك كالأطواق في الأعناق بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم و تألفوا من بعد طول لله همه ماجد لم تعتلق بسحيل آراء و لا أحذاق جلب السلاهب من أراك و بعدها جلب المراكب من جزيرة واق هذا العداء هو العداء فعد عن قول ابن حجر في لأى و عناق و أظنه و الظن علم أنه سيجيئنا بممالك الآفاق إما أسير صنيعة في جيده بالجود غل أو أسير و شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 110لا زال في ظل الخليفة ما له فان و سودده المعظم باو حادي عشرها قوله إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا ذلك له يوما هذا مثل قولهم أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما و أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما و ما كان يقال إذا هويت فلا تكن غاليا و إذا تركت فلا تكن قاليا. و ثاني عشرها قوله من ظن خيرا فصدق ظنه كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا يقال لمن قد شدا طرفا من العلم هذا عالم هذا فاضل فيدعوه ما ظن فيه من ذلك إلى تحقيقه فيواظب على الاشتغال بالعلم حتى يصير عالما فاضلا حقيقة و كذلك يقول الناس هذا كثير العبادة هذا كثير الزهد لمن قد شرع في شي ء من ذلك فتحمله أقوال الناس على الالتزام بالزهد و العبادة. و ثالث عشرها قوله و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه من هذا النحو قول الشاعر. إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم تدلون إدلال المقيم على العهدصلوا و افعلوا فعل المدل بوصله و إلا فصدوا و افعلوا فعل ذي الصدى
و كان يقال إضاعة الحقوق داعية العقوق. و رابع عشرها قوله لا ترغبن فيمن زهد فيك الرغبة في الزاهد هي الداء العياء قال العباس بن الأحنف(17/97)
ما زلت أزهد في مودة راغب حتى ابتليت برغبة في زاهدهذا هو الداء الذي ضاقت به حيل الطبيب و طال يأس العائد
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 111و قد قال الشعراء المتقدمون و المتأخرون فأكثروا نحو قولهمو في الناس إن رثت حبالك واصل و في الأرض عن دار القلى متحول
و قول تأبط شرا
إني إذا خلة ضنت بنائلها و أمسكت بضعيف الحبل أحذاقي نجوت منها نجائي من بجيلة إذ ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقيو خامس عشرها قوله لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته و لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان هذا أمر له بأن يصل من قطعه و أن يحسن إلى من أساء إليه. ظفر المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بكتب قد كتبها محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ع إلى أهل الكرخ و غيرهم من أعمال أصفهان يدعوهم فيها إلى نفسه فأحضرها بين يديه و دفعها إليه و قال له أ تعرف هذه فأطرق خجلا فقال له أنت آمن و قد وهبت هذا الذنب لعلي و فاطمة ع فقم إلى منزلك و تخير ما شئت من الذنوب فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو. و سادس عشرها قوله لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته و نفعك و ليس جزاء من سرك أن تسوءه
جاء في الخبر المرفوع إنه ص سمع عائشة تدعو على من سرق عقدا لها فقال لها لا تمسحي عنه بدعائك(17/98)
أي لا تخففي عذابه و قوله ع و ليس جزاء من سرك أن تسوءه يقول لا تنتقم ممن ظلمك فإنه قد نفعك في الآخرة بظلمه لك و ليس جزاء من ينفع إنسانا أن يسي ء إليه و هذا مقام جليل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 112لا يقدر عليه إلا الأفراد من الأولياء الأبرار و قبض بعض الجرة على قوم صالحين فحبسهم و قيدهم فلما طال عليهم الأمر زفر بعضهم زفرة شديدة و دعا على ذلك الجبار فقال له بعض أولاده و كان أفضل أهل زمانه في العبادة و كان مستجاب الدعوة لا تدع عليه فتخفف عن عذابه قالوا يا فلان أ لا ترى ما بنا و بك لا يأنف ربك لنا قال إن لفلان مهبطا في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون و إن لكم لمصعدا في الجنة لم تكونوا لتبلغوه إلا بما ترون قالوا فقد نال منا العذاب و الحديد فادع الله لنا أن يخلصنا و ينقذنا مما نحن فيه قال إني لأظن أني لو فعلت لفعل و لكن و الله لا أفعل حتى أموت هكذا فألقى الله فأقول له أي رب سل فلانا لم فعل بي هذا و من الناس من يجعل قوله ع و ليس جزاء من سرك أن تسوءه كلمة مفردة مستقلة بنفسها ليست من تمام الكلام الأول و الصحيح ما ذكرناه. و سابع عشرها و من حقه أن يقدم ذكره قوله و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك هذا كما يقال في المثل من شؤم الساحرة أنها أول ما تبدأ بأهلها و المراد من هذه الكلمة النهي عن قطيعة الرحم و إقصاء الأهل و حرمانهم و
في الخبر المرفوع صلوا أرحامكم و لو بالسلام(17/99)
وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَ الْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 113اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَإِنَّ الْأُمُورَ أَشْبَاهٌ وَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا تَنْفَعُهُ ْعِظَةُ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلَامِهِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآْدَابِ وَ الْبَهَائِمَ لَا تَتَّعِظُ إِلَّا بِالضَّرْبِ. اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَ حُسْنِ الْيَقِينِ مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ وَ الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ وَ الصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ وَ الْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ وَ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ وَ الْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكاً لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لَا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ الْأَعْمَى رُشْدَهُ أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ وَ قَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ(17/100)