و يكرر ذلك فأوجس عبيد الله خيفة و نهض فعاد إلى قصر الإمارة و فات مسلما منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة حتى صار أمره إلى ما صار و تاسع عشرها قوله ليس كل طالب يصيب و لا كل غائب يثوب الأولى كقول القائل
ما كل وقت ينال المرء ما طلبا و لا يسوغه المقدار ما وهبا
و الثانية كقول عبيد
و كل ذي غيبة يئوب و غائب الموت لا يئوب
العشرون قوله من الفساد إضاعة الزاد و مفسدة المعاد و لا ريب أن من كان في سفر و أضاع زاده و أفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق و هذا مثل ضربه للإنسان في حالتي دنياه و آخرته. الحادي و العشرون قوله و لكل أمر عاقبة هذا مثل المثل المشهور لكل سائلة قرار. الثاني و العشرون قوله سوف يأتيك ما قدر لك هذا من
قول رسول الله ص و إن يقدر لأحدكم رزق في قبة جبل أو حضيض بقاع يأته
الثالث و العشرون قوله التاجر مخاطر هذا حق لأنه يتعجل بإخراج الثمن و لا يعلم هل يعود أم لا و هذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن و هو أن من مزج الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة مثل قوله خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 4فإنه مخاطر لأنه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة كما لا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات و المراد أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلا الطاعة أو المباح. الرابع و العشرون قوله رب يسير أنمى من كثير قد جاء في الأثر قد يجعل الله من القليل الكثير و يجعل من الكثير البركة و قال الفرزدق
فإن تميما قبل أن يلد الحصى أقام زمانا و هو في الناس واحد(17/91)


و قال أبو عثمان الجاحظ رأينا بالبصرة أخوين كان أبوهما يحب أحدهما و يبغض الآخر فأعطى محبوبه يوم موته كل ماله و كان أكثر من مائتي ألف درهم و لم يعط الآخر شيئا و كان يتجر في الزيت و يكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله ثم رأينا أولاد الأخ الموسر بعد موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم
لَا خَيْرَ فِي مُعِينٍ مُهِينٍ وَ لَا فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ وَ لَا تُخَاطِرْ بِشَيْ ءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَىالصِّلَةِ وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللُّطْفِ وَ الْمُقَارَبَةِ وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 105وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ وَ امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ وْ قَبِيحَةً وَ تَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَ لَا أَلَذَّ مَغَبَّةً وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحَدُ الظَّفَرَيْنِ وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبِقْ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا وَ مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ وَ لَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ(17/92)


مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ وَ لَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ وَ لَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ وَ لَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ وَ لَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ
هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الأمثال الحكمية. فأولها قوله لا خير في معين مهين و لا في صديق ظنين مثل الكلمة الأولى قولهم
إذا تكفيت بغير كاف وجدته للهم غير شاف
و من الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله
فإن من الإخوان من شحط النوى به و هو راع للوصال أمين و منهم صديق العين أما لقاؤه فحلو و أما غيبه فظنين شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 106و ثانيها قوله ساهل الدهر ما ذلك لك قعوده هذا استعارة و القعود البكر حين يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثني و مثل هذا المعنى قولهم في المثل من ناطح الدهر أصبح أجم. و مثلهو در مع الدهر كيفما دارا
و مثله
و من قامر الأيام عن ثمراتها فأحر بها أن تنجلي و لها القمر
و مثله
إذا الدهر أعطاك العنان فسر به رويدا و لا تعنف فيصبح شامسا(17/93)


و ثالثها قوله لا تخاطر بشي ء رجاء أكثر منه هذا مثل قولهم من طلب الفضل حرم الأصل. و رابعها قوله إياك و أن تجمح بك مطية اللجاج هذا استعارة و في المثل ألج من خنفساء و ألج من زنبور و كان يقال اللجاج من القحة و القحة من قلة الحياء و قلة الحياء من قلة المروءة وفي المثل لج صاحبك فحج. و خامسها قوله احمل نفسك من أخيك إلى قوله أو تفعله بغير أهله اللطف بفتح اللام و الطاء الاسم من ألطفه بكذا أي بره به و جاءتنا لطفة من فلان أي هدية و الملاطفة المبارة و روي عن اللطف و هو الرفق للأمر و المعنى أنه أوصاه إذا قطعه أخوه أن يصله و إذا جفاه أن يبره و إذا بخل عليه أن يجود عليه إلى آخر الوصاة. ثم قال له لا تفعل ذلك مع غير أهله قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 10و أن الذي بيني و بين بني أبي و بين بني أمي لمختلف جدافإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجداو إن زجروا طيرا بنحس تمر بي زجرت لهم طيرا تمر بهم سعداو لا أحمل الحقد القديم عليهم و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
و قال الشاعر
إني و إن كان ابن عمي كاشحا لمقاذف من خلفه و ورائه و مفيده نصري و إن كان امرأ متزحزحا في أرضه و سمائه و أكون والي سره و أصونه حتى يحق علي وقت أدائه و إذا الحوادث أجحفت بسوامه قرنت صحيحتنا إلى جربائه و إذا دعا باسمي ليركب مركبا صعبا قعدت له على سيسائه وأجن فليقة في خدره لم أطلع مما وراء خبائه و إذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل يا ليت أن علي فضل ردائهو سادسها قوله لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا قال بعضهم
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك و انقطع الكلام
و قال آخر
صديق صديقي داخل في صداقتي و خصم صديقي ليس لي بصديق
و قال آخر
تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك إن الرأي عنك لعازب(17/94)


شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 108و سابعها قوله و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ليس يعني ع بقبيحة هاهنا القبيح الذي يستحق به الذم و العقاب و إنما يريد نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الأجل فعبر عن النفع و الضرر بالحسن و القبيح كقوله تعالى وَ إِ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. و قد فسره قوم فقالوا أراد كانت نافعة لك أو ضارة لك و يحتمل تفسير آخر و هو وصيته إياه أن يمحض أخاه النصيحة سواء كانت مما لا يستحيا من ذكرها و شياعها أو كانت مما يستحيا من ذكرها و استفاضتها بين الناس كمن ينصح صديقه في أهله و يشير عليه بفراقهم لفجور اطلع عليه منهم فإن الناس يسمون مثل هذا إذا شاع قبيحا. و ثامنها قوله تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذ مغبة هذا مثل قولهم الحلم مرارة ساعة و حلاوة الدهر كله و كان يقال التذلل للناس مصايد الشرف.
قال المبرد في الكامل أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي ع فقال يا بني عليك بتجرع الغيظ من الرجال فإن أباك لا يسره بنصيبه من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم و الحلم أعز ناصرا و أكثر عددا
و تاسعها قوله لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك هذا مثل المثل المشهور إذا عز أخوك فهن و الأصل في هذا قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. و عاشرها قوله خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين هذا معنى مليح و منه قول ابن هانئ في المعز شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 10ضراب هام الروم منتقما و في أعناقهم من جوده أعباءلو لا انبعاث السيف و هو مسلط في قتلهم قتلتهم النعماء(17/95)

107 / 150
ع
En
A+
A-