هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية. أولها قوله تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك و هذا مثل قولهم أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما و لست بقادر على أن تجعل كلامك صمتا و هذا حق لأن الكلام يسمع و ينقل فلا يستطاع إعادته صمتا و الصمت عدم الكلام فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام و ليس الصمت بمنقول و لا مسموع فيتعذر استدراكه. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 98و ثانيها قوله حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في أيدي غيرك هذا مثل قولهم في المثل البخل خير من سؤال البخيل و ليس مراد أمير اؤمنين ع وصايته بالإمساك و البخل بل نهيه عن التفريط و التبذير قال الله تعالى وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً و أحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال الناس و ظنا أنه يقدر على الاستخلاف قال الشاعر
إذا حدثتك النفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و ثالثها قوله مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس من هذا أخذ الشاعر قوله
و إن كان طعم اليأس مرا فإنه ألذ و أحلى من سؤال الأراذل
و قال البحتري
و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى تعبا كظن الخائب المغرور(17/86)


و رابعها قوله الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور و الحرفة بالكسر مثل الحرف بالضم و هو نقصان الحظ و عدم المال و منه قوله رجل محارف بفتح الراء يقول لأن يكون المرء هكذا و هو عفيف الفرج و اليد خير من الغنى مع الفجور و ذلك لأن ألم الحرفة مع العفة و مشقتها إنما هي في أيام قليلة و هي أيام العمر و لذة الغنى إذا كان مع الفجور ففي مثل تلك الأيام يكون و لكن يستعقب عذابا طويلا فالحال الأولى خير لا محالة و أيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها و الذكر القبيح في الثانية و للمحافظة على المروءة في الأولى و سقوط المروءة في الثانية. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 99و خامسها قوله المرء أحفظ لسره أي الأولى ألا تبوح بسرك إلى أحد فأنت أحفظ له من غيرك فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك لأنك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك فغيرك عن حفظ سرك و هو أجنبي أعجز قال الشاعرإذا ضاق أصدر المرء عن حفظ سره فصدر الذي يستودع السر أضيق
و سادسها قوله رب ساع فيما يضره قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا. و سابعها قوله من أكثر أهجر يقال أهجر الرجل إذا أفحش في المنطق السوء و الخنى قال الشماخ
كماجدة الأعراق قال ابن ضرة عليها كلاما جار فيه و أهجرا
و هذا مثل قولهم من كثر كلامه كثر سقطه و قالوا أيضا قلما سلم مكثار أو أمن من عثار. و ثامنها قوله من تفكر أبصر قالت الحكماء الفكر تحديق العقل نحو المعقول كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس و كما أن من حدق نحو المبصر و حدقته صحيحة و الموانع مرتفعة لا بد أن يبصره كذلك من نظر بعين عقله و أفكر فكرا صحيحا لا بد أن يدرك الأمر الذي فكر فيه و يناله. و تاسعها قوله قارن أهل الخير تكن معهم و باين أهل الشر تبن عنهم كأن يقال حاجبك وجهك و كاتبك لسانك و جليسك كلك و قال الشاعر
عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه فكل قرين بالمقارن مقتد(17/87)


شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 100و عاشرها قوله بئس الطعام الحرام هذا من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. و حادي عشرها قوله ظلم الضعيف أفحش الظلم رأى معاويةبنه يزيد يضرب غلاما فقال يا بني كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك و أمر المأمون بإشخاص الخطابي القاص من البصرة فلما مثل بين يديه قال له يا سليمان أنت القائل العراق عين الدنيا و البصرة عين العراق و المربد عين البصرة و مسجدي عين المربد و أنا عين مسجدي و أنت أعور فإن عين الدنيا عوراء قال يا أمير المؤمنين لم أقل ذاك و لا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك قال بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سواري مسجدك
رحم الله عليا إنه كان تقيا
فأمرت بمحوه قال يا أمير المؤمنين كان و لقد كان نبيا فأمرت بإزالته فقال كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة ثم قال و الله لو لا أن أقيم لك عند العامة سوقا لأحسنت تأديبك قال يا أمير المؤمنين قد ترى ما أنا عليه من الضعف و الزمانة و الهرم و قلة البصر فإن عاقبتني مظلوما فاذكر
قول ابن عمك علي ع ظلم الضعيف أفحش الظلم
و إن عاقبتني بحق فاذكر أيضا(17/88)


قوله لكل شي ء رأس و الحلم رأس السؤدد فنهض المأمون من مجلسه و أمر برده إلى البصرة و لم يصله بشي ء و لم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي و ليس هذا هو المحدث الحافظ المشهور ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي كان في أيام المطيع و الطائع و هذا قاص بالبصرة كان يقال له أبو زكري سليمان بن محمد البصري. و ثاني عاشرها قوله إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا يقول إذا كان استعمال شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 101الرفق مفسدة و زيادة في الشر فلا تستعمله فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق و لكن استعمل الخرق فإنه يكون رفقا و الحالة هذه لأن الشر يلقى إلا بشر مثله قال عمرو ابن كلثوم
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
و في المثل إن الحديد بالحديد يفلج. و قال زهير
و من لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم و من لا يظلم الناس يظلم
و قال أبو الطيب
و وضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
و ثالث عشرها قوله و ربما كان الدواء داء و الداء دواء هذا مثل قول أبي الطيب
ربما صحت الأجسام بالعلل
و مثله قول أبي نواس
و داوني بالتي كانت هي الداء
و مثل قول الشاعر
تداويت من ليلى بليلى فلم يكن دواء و لكن كان سقما مخالفا(17/89)


و رابع عشرها قوله ربما نصح غير الناصح و غش المستنصح كان المغيرة بن شعبة يبغض عليا ع منذ أيام رسول الله ص و تأكدت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 102بغضته إلى أيام أبي بكر و عثمان و عمر و أشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة فإذا خطب لبالشام و توطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر و عثمان يدعوانه إليهما و صرفه فلم يقبل و كان ذلك نصيحة من عدو كاشح. و استشار الحسين ع عبد الله بن الزبير و هما بمكة في الخروج عنها و قصد العراق ظانا أنه ينصحه فغشه و قال له لا تقم بمكة فليس بها من يبايعك و لكن دونك العراق فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا فخرج إلى العراق حتى كان من أمره ما كان. و خامس عشرها قوله إياك و الاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى جمع أنوك و هو الأحمق من هذا أخذ أبو تمام قوله
من كان مرعى عزمه و همومه روض الأماني لم يزل مهزولا
و من كلامهم ثلاثة تخلق العقل و هو أوضح دليل على الضعف طول التمني و سرعة الجواب و الاستغراب في الضحك و كان يقال التمني و الحلم سيان و قال آخر شرف الفتى ترك المنى. و سادس عشرها قوله العقل حفظ التجارب من هذا أخذ المتكلمون قولهم العقل نوعان غريزي و مكتسب فالغريزي العلوم البديهية و المكتسب ما أفادته التجربة و حفظته النفس. و سابع عشرها قوله خير ما جربت ما وعظك مثل هذا قول أفلاطون إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب بل أنت ساذج كما كنت. و ثامن عشرها قوله بادر الفرصة قبل أن تكون غصة حضر عبيد الله بن زياد عند هانئ بن عروة عائدا و قد كمن له مسلم بن عقيل و أمره أن يقتله إذا جلس شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 103و استقر فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه و يريدها على الوثوب به فلم تطعه و جعل هانئ ينشد كأنه يترنم بالشعرما الانتظار بسلمى لا تحييها(17/90)

106 / 150
ع
En
A+
A-