و اعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا و الفناء و الموت من محاسن كلام الصالحين و الحكماء ما فيه الشفاء و نذكر الآن أشياء آخر. فمن كلام الحسن البصري يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإذا مضى يوم مضى بعضك. عن بعض الحكماء رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس فإنه يموت وحده و يقبر وحده و يحاسب وحده. و قال بعضهم لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا و لا الاعتداد بشي ء من متاعها و لا التخلي منها أما ترك الاهتمام لها فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها و أما ترك الاعتداد بها فإن مرجع كل أحد إلى تركها و أما تر التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها. و من كلام بعض الحكماء أفضل اختيار الإنسان ما توجه به إلى الآخرة و أعرض به عن الدنيا و قد تقدمت الحجة و أذنا بالرحيل و لنا من الدنيا على الدنيا دليل و إنما أحدنا في مدة بقائه صريع لمرض أو مكتئب بهم أو مطروق بمصيبة أو مترقب لمخوف لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم و المشروب أن يكون موته فيه و لا يأمن مملوكه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 92و جاريته أن يقتلاه بحديد أو سم و هو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال و سمعه من صمم و بصره من عمى و لسانه من خرس و سائر جوار من زمانة و نفسه من تلف و ماله من بوار و حبيبه من فراق و كل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه ذليل في قبضته محتاج إليه لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه و عمر آخرته بتخريب دنياه و إذا اعترضته بحار المكاره جعل معابرها الصبر و التأسي و لم يغتر بتتابع النعم و إبطاء حلول النقم و أدام صحبة التقي و فطم النفس عن الهوى فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها و لا يمكنه أن يزيد فيها و مثل ذلك يوشك فناؤه و سرعة زواله. و قال أبو العتاهية في ذكر الموت(17/81)
ستباشر الترباء خدك و سيضحك الباكون بعدك و لينزلن بك البلى و ليخلفن الموت عهدك و ليفنينك مثل ما أفنى أباك بلى و جدك لو قد رحلت عن القصور و طيبها و سكنت لحدك لم تنتفع إلا بفعل صالح قد كان ع شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 93و ترى الذين قسمت مالك بينهم حصصا و كدك يتلذذون بما جمعت لهم و لا يجدون فقوَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً وَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً وَ اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ وَ لَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ وَ يُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ وَ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ وَ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 94مثل الكلمة الأولى قول بعض الحكماء و قد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين ع أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام
قوله فخفضن في الطلب من(17/82)
قول رسول الله ص إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب
و قال الشاعر
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضا و لو نال الغنى بسؤال و إذا النوال إلى السؤال قرنته رجح السؤال و خف كل نوالو قال آخر
رددت رونق وجهي عن صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم و ما أبالي و خير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دميو قال آخر
و إني لأختار الزهيد على الغنى و أجزأ بالمال القراح عن المحض و أدرع الإملاق صبرا و قد أرى مكان الغنى كي لا أهين له عرضيو قال أبو محمد اليزيدي في المأمون
أبقى لنا الله الإمام و زاده شرفا إلى الشرف الذي أعطاه و الله أكرمنا بأنا معشر عتقاء من نعم العباد سواهو قال آخر
كيف النهوض بما أوليت من حسن أم كيف أشكر ما طوقت من نعم
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 95ملكتني ماء وجه كاد يسكبه ذل السؤال و لم تفجع به هممو قال آخر
لا تحرصن على الحطام فإنما يأتيك رزقك حين يؤذن فيه سبق القضاء بقدره و زمانه و بأنه يأتيك أو يأتيهو كان يقال ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه. و قال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر على الحرص على طلب الرزق فقال له أحد الحاضرين يحمله القدر فسكت. أقول لو كنت حاضرا لقلت لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص و لما مدحوه على العفة و القناعة فإن عاد و قال و أولئك ألجأهم القدر إلى المدح و الذم و الأمر و النهي فقد جعل نفسه و غيره من الناس بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات التي يحركها غيرها و من بلغ إلى هذا الحد لا يكلم. و قال الشاعر
أراك تزيدك الأيام حرصا على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما إليها قلت حسبي قد رضيتأبو العتاهية(17/83)
أي عيش يكون أطيب من عيش كفاف قوت بقدر البلاغ قمرتني الأيام عقلي و مالي و شبابي و صحتي و فراغيو أوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 9كن حسن الظن برب خلقك بني و احمده على ما رزقك و اعلم بأن الحرص يطفي رونقك فجانب الحرص و حسن خلقك و اصدق و صادق أبدا من صدقك دار معاديك و مق من ومقك و اجعل لأعدائك حزما ملقك و جنبن حشو الكلام منطقك هذي وصاة والد قد عشقك وصاة من يقلقه ما أقلقك أرشدك اللهو وفقك
أبو العتاهية
أجل الغنى مما يؤمل أسرع و أراك تجمع دائما لا تشبع قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمعو أوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته فقال لا تدنسن عرضك و لا تبذلن وجهك و لا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك عيبا و إن قضى حاجتك جعلها عليك منا و احتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس و الزم القناعة بما قسم لك فإن سوء عمل الفقير يضع الشريف و يخمل الذكر و يوجب الحرمان(17/84)
وَ تَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ وَ حِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ وَ مَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ وَ الْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ وَ الْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 97مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ قَارِنْ أَهْلَ الْخَيِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ وَ ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ وَ إِيَّاكَ وَ الِاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى وَ الْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لَا كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ الْمَعَادِ وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ(17/85)