وَ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَ بَيْنَكَ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 87وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ تَعَرَّضْتَ لِلْفَضِيحَةِ وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ وَ لَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً وَ فَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وَ بَابَ الِاسْتِعْتَابِ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ وَ اسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَ اسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ فَلَا يُقْنِطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآْمِلِ وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْ ءَ فَلَا(17/76)


تُعْطَاهُ وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتَُ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ وَ يُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ وَ لَا تَبْقَى لَهُ
قد تقدم القول في الدعاء. قوله بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة هذا متفق عليه بين أصحابنا و هو أن تارك القبيح لأنه قبيح يستحق الثواب. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 88قوله حسب سيئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا هذا إشارة إلى قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. قوله و أبثثته ذات نفسك أي حاجتك. ثم ذكر له وجوها في سبب إبطاء الإجابة منها أن ذلك أمر عائد إلى النية فلعلها لم تكن خالصة. و منها أنه ربما أخرت ليكون أعظم لأجر السائل لأن الثواب على قدر المشقة. و منها أنه ربما أخرت ليعطي السائل خيرا مما سائل إما عاجلا أو آجلا أو في الحالين. و منها أنه ربما صرف ذلك عن السائل لأن في إعطائه إياه مفسدة في الدين. قوله فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له لفظ شريف فصيح و معنى صادق محقق فيه عظة بالغة و قال أبو الطيب
أين الجبابرة الأكاسرة الألى كنزوا الكنوز فما بقين و لا بقوا(17/77)


و يروى من يحجبه عنك. و روى حيث الفضيحة أي حيث الفضيحة موجودة منك. و اعلم أن في قوله قد أذن لك في الدعاء و تكفل لك بالإجابة إشارة إلى قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. و في قوله و أمر أن تسأله ليعطيك إشارة إلى قوله وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 89و في قوله و تسترحمه ليرحمك إشارة إلى قوله وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. و في قوله و لم يمنعك إن أسأت من التوبة إشارة إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلاللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً(17/78)


وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآْخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا وَ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ وَ طَرِيقٍ إِلَى الآْخِرَةِ وَ أَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو هَارِبُهُ وَ لَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ أَنْ يُدْرِكَكَ وَ أَنْتَ عَلَى حَالِ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّهُ عَنْهَا وَ نَعَتَتْ لَكَ نَفْسَهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 90نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ عْثٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا وَ لَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا رُوَيْداً يُسْفِرُ(17/79)


الظَّلَامُ كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ
يقول هذا منزل قلعة بضم القاف و سكون اللام أي ليس بمستوطن و يقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة و يقال أيضا هم على قلعة أي على رحلة و القلعة أيضا هو المال العارية و
في الحديث بئس المال القلعة
و كله يرجع إلى معنى واحد. قوله و دار بلغة و البلغة ما يتبلغ به من العيش. قوله سروح عاهة و السروح جمع سرح و هو المال السارح و العاهة الآفة أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة. و واد وعث لا يثبت الحافر و الخف فيه بل يغيب فيه و يشق على من يمشي فيه. و أوعث القوم وقعوا في الوعث. و مسيم يسيمها راع يرعاها. قوله رويدا يسفر الظلام إلى آخر الفصل ثلاثة أمثال محركة لمن عنده شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 91استعداد و استقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله و أنا يومئذ حدث هذه الوصية فقرأتها عليه من حفظي فلما وصلت إلى هذا الضع صاح صيحة شديدة و سقط و كان جبارا قاسي القلب
أقوال حكيمة في وصف الدنيا و فناء الخلق(17/80)

104 / 150
ع
En
A+
A-