وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللَّهِ وَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ الْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ وَ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا وَ الْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ لَا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَ عُلَقِ الْخُصُومَاتِ وَ ابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ وَ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلَالَةٍ فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وَ فَرَاغِ نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 71فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ وَ لَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ وَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ مْثَلُ(17/61)


أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض و أن يأخذ بسنة السلف الصالح من آبائه و أهل بيته فإنهم لم يقتصروا على التقليد بل نظروا لأنفسهم و تأملوا الأدلة ثم رجعوا آخر الأمر إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا. فإن قلت من سلفه هؤلاء الذين أشار إليهم قلت المهاجرون الأولون من بني هاشم و بني المطلب كحمزة و جعفر و العباس و عبيدة بن الحارث و كأبي طالب في قول الشيعة و كثير من أصحابنا و كعبد المطلب في قول الشيعة خاصة. فإن قلت فهل يكون أمير المؤمنين ع نفسه معدودا من جملة هؤلاء قلت لا فإنه لم يكن من أهل المبادئ و الجمل المقتصر بهم في تكليفهم العقليات على أوائل الأدلة بل كان سيد أهل النظر كافة و إمامهم. فإن قلت ما معنى قوله لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم قلت لأنهم إذا تأملوا الأدلة و فكروا فيها فقد نظروا لأنفسهم كما ينظر الإنسان لنفسه ليخلصها من مضرة عظيمة سبيلها أن تقع به إن لم ينظر في الخلاص منها و هذا هو الوجه في وجوب النظر في طريق معرفة الله و الخوف من إهمال النظر. فإن قلت ما معنى قوله إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 72قلت الأخذ بما عرفوا مثل أدلة حدوث الأجسام و توحيد البارئ و عدله الإمساك عما لم يكلفوا مثل النظر في إثبات الجزء الذي لا يتجزأ و نفيه و مثل الكلام في الخلإ و الملإ و الكلام في أن هل بين كل حركتين مستقيمتين سكون أم لا و أمثال ذلك مما لا يتوقف أصول التوحيد و العدل عليه فإنه لا يلزم أصحاب الجمل و المبادئ أن يخوضوا في ذلك لأنهم لم يكلفوا الخوض فيه و هو من وظيفة قوم آخرين. قوله ع فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا هذا الموضع فيه نظر لأنا قد قلنا إنهم لم يعلموا التفاصيل الدقيقة فكيف يجعلهم عالمين بها و يقول أن تعلم كما علموا و ينبغي أن يقال إن الكاف و ما عملت فيه في موضع نصب لأنه صفة مصدر محذوف و تقديره فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك(17/62)


علما كما علموا دون أن تعلم التفاصيل الدقيقة و جاز انتصاب علما و العامل فيه تقبل لأن القبول من جنس العلم لأن القبول اعتقاد و العلم اعتقاد و ليس لقائل أن يقول فإذن يكون قد فصل بين الصفة و الموصوف بأجنبي لأن الفصل بينهما قد جاء كثيرا قال الشاعر
جزى الله كفا ملئها من سعادة سرت في هلاك المال و المال نائم
و يجوز أن يقال كما علموا الآن بعد موتهم فإنهم بعد الموت يكونون عالمين بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا لأن المعارف ضرورية بعد الموت و النفوس باقية على قول كثير من المسلمين و غيرهم. و اعلم أن الذي يدعو إلى تكلف هذه التأويلات أن ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد النبي ص و الأخذ بما في القرآن و ترك النظر العقلي هذا هو ظاهر الكلام أ لا تراه كيف يقول له الاقتصار على ما فرضه الله عليك و الأخذ بما مضى عليه أهل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 73بيتك و سلفك فإنهم لما حاولوا النظر رجعوا بأخرة إلى السمعيات و ترك العقليات لأنها أفضت بهم إلى ما لا يعرفونه و لا هو من تكليفهم. ثم قال له فإن كرهت التقليد المحض و أحببت أن تسلك مسلكهم في النظر و إن أفضى بك الأمر بأخرة إلى تركه و العود إلى المعروف من الشرعيات و ما ورد به الكتاب و السنة فينبغي أن تنظر و أنت مجتمع الهم خال من الشبهة و تكون طالبا للحق غير قاصد إلى الجدل و المراء فلما وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني و لم يجز عندنا أن يأمر أمير المؤمنين ع ولده مع حكمته و أهلية ولده بالتقليد و ترك النظر رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به ع من أن يأمر بما لا يجوز لمثله أن يأمر به. و اعلم أنه قد أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون و ذلك أمور منها أن يرغب إلى الله في توفيقه و تسديده. و منها أن يطلب المطلوب النظري بتفهم و تعلم لا بجدال و مغالبة و مراء و مخاصمة. و منها إطراح العصبية لمذهب بعينه و التورط في الشبهات التي يحاول بها(17/63)


نصره ذلك المذهب. و منها ترك الإلف و العادة و نصرة أمر يطلب به الرئاسة و هو المعني بالشوائب التي تولج في الضلال. و منها أن يكون صافي القلب مجتمع الفكر غير مشغول السر بأمر من جوع شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 74أو شبع أو شبق أو غضب و لا يكوذا هموم كثيرة و أفكار موزعة مقسمة بل يكون فكره و همه هما واحدا. قال فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر و إن لم يجتمع لك ذلك و نظرت كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي و كمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه و ليس طالب الدين من كان خابطا أو خالطا و الإمساك عن ذلك أمثل و أفضل
فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي وَ اعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ وَ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ وَ أَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ وَ أَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي وَ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلَّا عَلَى مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ وَ الِابْتِلَاءِ وَ الْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لَا تَعْلَمُ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهلًا ثُمَّ عُلِّمْتَ وَ مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ وَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ وَ يَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ(17/64)


قد تعلق بهذه اللفظة و هو قوله أو ما شاء مما لا تعلم قوم من التناسخية و قالوا المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس إليها و ليس ما قالوه بظاهر و يجوز أن يريد ع أن الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة كالأسقام و الفقر و غيرهما و العقاب و إن كان مفعولا على وجه الاستحقاق و الإهانة فيجوز لمستحقه و هو الباري شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 75أن يقتصر منه على الإيلام فقط لأن الجميع حقه فله أن يستوفي البعض و يسقط البعض و قد روي أو بما شاء بالباء الزائدة و روي بما لا يعلم و أما الثواب فلا يجوز يجازى به المحسن في الدنيا لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع التكليف فيحمل لفظ الجزاء على جزاء العقاب خاصة. ثم أعاد ع وصيته الأولى فقال و إن أشكل عليك شي ء من أمر القضاء و القدر و هو كون الكافر مخصوصا بالنعماء و المؤمن مخصوصا بضرب من الابتلاء و كون الجزاء قد كون في المعاد و قد يكون في غير المعاد فلا تقدحن جهالتك به في سكون قلبك إلى ما عرفتك جملته و هو أن الله تعالى هو المحيي المميت المفني المعيد المبتلي المعافي و أن الدنيا بنيت على الابتلاء و الأنعام و أنهما لمصالح و أمور يستأثر الله تعالى بعلمها و أنه يجازي عباده إما في الآخرة أو غير الآخرة على حسب ما يريده و يختاره. ثم قال له إنما خلقت في مبدإ خلقتك جاهلا فلا تطلبن نفسك غاية من العلم لا وصول لها إليها أو لها إليها وصول بعد أمور صعبة و متاعب شديدة فمن خلق جاهلا حقيق أن يكون جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحابا للأصل. ثم أراد أن يؤنسه بكلمة استدرك بها إيحاشه فقال له و عساك إذا جهلت شيئا من ذلك أن تعلمه فيما بعد فما أكثر ما تجهل من الأمور و تتحير فيه ثم تبصره و تعرفه و هذا من الطب اللطيف و الرقى الناجعة و السحر الحلال شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 7فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَ رَزَقَكَ وَ سَوَّاكَ فَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ(17/65)

101 / 150
ع
En
A+
A-