شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 65أمره يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و هما واجبان عندنا و أحد الأصول الخمسة التي هي أصول الدين. و معنى قوله تكن من أهله لأن أهل المعروف هم الأبرار الصالحون و يجب إنكار المنكر باللسان فإن لم ينجع فباليد و تفصيل ذلك و ترتيبه مذر في كتبي الكلامية. قوله و خض الغمرات إلى الحق لا شبهة أن الحسن ع لو تمكن لخاضها إلا أن من فقد الأنصار لا حيلة له.
و هل ينهض البازي بغير جناح
و الذي خاضها مع عدم الأنصار هو الحسين ع و لهذا عظم عند الناس قدره فقدمه قوم كثير على الحسن ع فإن قلت فما قول أصحابكم في ذلك قلت هما عندنا في الفضيلة سيان أما الحسن فلوقوفه مع قوله تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا و أما الحسين فلإعزاز الدين. قوله فنعم التصبر قد تقدم منا كلام شاف في الصبر. و قوله و أكثر الاستخارة ليس يعني بها ما يفعله اليوم قوم من الناس من سطر رقاع و جعلها في بنادق و إنما المراد أمره إياه بأن يطلب الخيرة من الله فيما يأتي و يذر. قوله لا خير في علم لا ينفع قول حق لأنه إذا لم ينفع كان عبثا. شرح نهالبلاغة ج : 16 ص : 66قوله و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه أي لا يجب و لا يندب إليه و ذلك لأن النفع إنما هو نفع الآخرة فما لم يكن من العلوم مرغبا فيه إما بإيجاب أو ندب فلا انتفاع به في الآخرة و ذلك كعلم الهندسة و الأرثماطيقي و نحوهما(17/56)


أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ وَ أَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَ فِتَنِ الدُّنْيَا فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْ ءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَبِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ وَ اسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ
هذه الوصية كتبها ع للحسن بعد أن تجاوز الستين و روي أنه ذكر عند رسول الله ص ما بين الستين و السبعين فقال معترك المنايا. قوله ع أو أن أنقص في رأيي هذا يدل على بطلان قول من قال إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه و أن الإمام معصوم عن أمثال ذلك و كذلك قوله شرح نهج الاغة ج : 16 ص : 67للحسن أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا يدل على أن الإمام لا يجب أن يعصم عن غلبات الهوى و لا عن فتن الدنيا. قوله فتكون كالصعب النفور أي كالبعير الصعب الذي لا يمكن راكبا و هو مع ذلك نفور عن الأنس. ثم ذكر أن التعلم إنما هو في الصبا و في المثل الغلام كالطين يقبل الختم ما دام رطبا. و قال الشاعر
اختم و طينك رطب إن قدرت فكم قد أمكن الختم أقواما فما ختموا(17/57)


و مثل هو ع قلب الحدث بالأرض الخالية ما ألقي فيها من شي ء قبلته و كان يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر و التعلم في الكبر كالخط على الماء. قوله فأتاك من ذلك ما كنا نأتيه أي الذي كنا نحن نتجشم المشقة في اكتسابه و نتكلف طلبه يأتيك أنت الآن صفوا عفوا أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ جَلِيلَهُ وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 68جَمِيلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ وَ رَأَيْتَُيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ وَ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَ أَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِيَةٍ وَ أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ تَأْوِيلِهِ وَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَ أَحْكَامِهِ وَ حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ لَا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِكَ إِلَى أَمْرٍ لَا آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ الْهَلَكَةَ وَ رَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللَّهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ وَ أَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ(17/58)


هذا الفصل و ما بعده يشعر بالنهي عن علم الكلام حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه أ لا تراه قال له كنت عازما على أن أعلمك القرآن و تفسيره و الفقه و هو المعرفة بأحكام الشريعة و لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثم خفت أن تدخل عليك شبهة في أصول الدين فيلتبس عليك في عقيدتك الأصلية ما التبس على غيرك من الناس فعدلت عن العزم الأول إلى أن أوصيك بوصايا تتعلق بأصول الدين. و معنى قوله ع و كان إحكام ذلك إلى قوله لا آمن عليك به الهلكة أي فكان إحكامي الأمور الأصلية عندك و تقرير الوصية التي أوصيك بها في ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم الإلهية و إن كنت كارها للخوض معك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 69فيه و تنبيهك عليه أحب إلي من أن أتركك سدى مهملا تتلاعب بك الشبه و تعتورك الشكوك في أصول دينك فربما أفضى ذلك بك إلى الهلكة. فإن قلت فلما ذا كان كارها تنبيه ولده على ذلك و أنتم تقولون إن معرفة الله جبة على المكلفين و ليس يليق بأمير المؤمنين أن يكره ما أوجبه الله تعالى قلت لعله علم إما من طريق وصية رسول الله ص أو من طريق معرفته بما يصلح أن يكون لطفا لولده و معرفته بما يكون مفسدة له لكثرة التجربة له و طول الممارسة لأخلاقه و طباعه أن الأصلح له ألا يخوض في علم الكلام الخوض الكلي و أن يقتنع بالمبادئ و الجمل فمصالح البشر تختلف فرب إنسان مصلحته في أمر ذلك الأمر بعينه مفسدة لغيره و نحن و إن أوجبنا المعرفة فلم نوجب منها إلا الأمور المجملة و أما التفصيلات الدقيقة الغامضة فلا تجب إلا عند ورود الشبهة فإذا لم تقع الشبهة في نفس المكلف لم يجب عليه الخوض في التفصيلات. قوله ع قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم العين مفتوحة و الميم مكسورة مخففة تقول عمر الرجل يعمر عمرا و عمرا على غير قياس لأن قياس مصدره التحريك أي عاش زمانا طويلا و استعمل في القسم أحدهما فقط و هو المفتوح. قوله ع حيث عناني من أمرك أي أهمني قال
عناني من صدودك ما عنا(17/59)


قوله و أجمعت عليه أي عزمت. و مقتبل الدهر يقال اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح و هو من الشواذ و مثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن و إذا عف فمحصن أيضا و أسهب إذا أطال الحديث فهو مسهب و ألفج إذا افتقر فهو ملفج و ينبغي أن يكون له من قوله تنبيهك له بمعنى شرح نهالبلاغة ج : 16 ص : 70عليه أو تكون على أصلها أي ما كرهت تنبيهك لأجله. فإن قلت إلى الآن ما فسرت لما ذا كره تنبيهه على هذا الفن قلت بلى قد أشرت إليه و هو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن و علم الفقه إلى الخوض في الأمور الأصولية فنبهه على أمور يجره النظر و تأمل الأدلة و الشبهات إليها دقيقة يخاف على الإنسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته إلا أنه لم يجد به بدا من تنبيهه على أصول الديانة و إن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة فنبهه على أمور جملية غير مفصلة و أمره أن يلزم ذلك و لا يتجاوزه إلى غيره و أن يمسك عما يشتبه عليه و سيأتي ذكر ذلك(17/60)

100 / 150
ع
En
A+
A-