حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَبِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 138موضع أن يعديكم نصب على البدل من عدو الله و قال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا و هذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين و العدوى ما يعدي من جرب أو غيره أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته و هو مجاوزته من صاحبه إلى غيره و
في الحديث لا عدوى في الإسلام(14/171)
فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم قلت إن النبي ص أبطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب في الإبل و غيرها و أمير المؤمنين ع حذر المكلفين من أن يتعلموا من إبليس الكبر و الحمية و شبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الأمرين في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر. قوله ع يستفزكم أي يستخفكم و هو من ألفاظ القرآن وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي أزعجه و استخفه و أطر قلبه و الخيل الخيالة و منه
الحديث يا خيل الله اركبي
و الرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب و صحب اسم جمع لصاحب و هذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و قرئ و رجلك بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 139و معناه و قد تضم الجيم أيضا فيكون مثل قولك رجل حدث و حدث و ندس و ندس. فإن قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده قلت يجوز أن يكون ذلك و قد فسره قوم بهذا و الصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوبخيله فيستأصلهم و قيل بصوتك أي بدعائك إلى القبيح و خيله و رجله كل ماش و راكب من أهل الفساد من بني آدم قوله و فوقت السهم جعلت له فوقا و هو موضع الوتر و هذا كناية عن الاستعداد و لا يجوز أن يفسر قوله فقد فوق لكم سهم الوعيد بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به لأن ذلك لا يقال فيه قد فوق بل يقال أفقت السهم و أوفقته أيضا و لا يقال أفوقته و هو من النوادر. و قوله و أغرق إليكم بالنزع أي استوفى مد القوس و بالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد. قوله و رماكم من مكان قريب لأنه كما جاء
في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم و يخالط القلب(14/172)
و لا شي ء أقرب من ذلك. و الباء في قوله بِما أَغْوَيْتَنِي متعلق بفعل محذوف تقديره أجازيك بما أغويتني تزييني لهم القبيح فما على هذا مصدرية أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح فحذف المفعول و يجوز أن تكون الباء قسما كأنه أقسم بإغوائه إياه ليزينن لهم. فإن لت و أي معنى في أن يقسم بإغوائه و هل هذا مما يقسم به قلت نعم لأنه ليس إغواء الله تعالى إياه خلق الغي و الضلال في قلبه بل تكليفه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 140إياه السجود الذي وقع الغي عنده من الشيطان لا من الله فصار حيث وقع عنده كأنه موجب عنه فنسب إلى الري و التكليف تعريض للثواب و لذة الأبد فكان جديرا أن يقسم به و قد أقسم في موضع آخر فقال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأقسم بالعزة و هاهنا أقسم بالأمر و التكليف و يجوز فيه وجه ثالث و هو ألا تكون الباء قسما و يقدر قسم محذوف و يكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي و هو أن أزين لهم المعاصي التي تكون سبب هلاكهم. فإن قلت ليس هذا نحو ما فعله الباري به لأن الباري أمره بالحسن فأباه و عدل عنه إلى القبيح و الشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه و نعدل عنه إلى القبيح فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع الباري قلت المشابهة بين الواقعتين في أن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية لا على وجه الإجبار و القسر بل على قصد الاختيار لأن معصية إبليس كانت من نفسه و وقعت عند الأمر بالسجود اختيارا منه لا فعلا من الباري و معصيتنا نحن عند التزيين و الوسوسة تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه. فإن قلت ما معنى قوله فِي الْأَرْضِ و من أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له ذرية في الأرض قلت أما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له و للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و أما لفظة الأرض(14/173)
فالمراد بها هاهنا الدنيا التي هي دار التكليف كقوله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 141 وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا و ما فيها من الملاذ و هوى الأس. قوله ع قذفا بغيب بعيد أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب بعيد و العرب تقول للشي ء المتوهم على بعد هذا قذف بغيب بعيد و القذف في الأصل رمي الحجر و أشباهه و الغيب الأمر الغائب و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنية قال الله تعالى في كفار قريش وَ يَقْذِفُونَ بِالَْيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه ع به و انتصب قذفا على المصدر الواقع موقع الحال و كذلك رجما و قال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له و ليس بصحيح لأن المفعول له ما يكون عذرا و علة لوقوع الفعل و إبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف و الرجم فلا يكون مفعولا له. فإن قلت كيف قال ع قذفا من مكان بعيد و رجما بظن غير مصيب و قد صح ما توهمه و أصاب في ظنه فإن إغواءه و تزيينه تم على الناس كلهم إلا على المخلصين قلت أما أولا فقد روي و رجما بظن مصيب بحذف غير و يؤكد هذه الرواية قوله تعالى وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً و أما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول أما قذفا من مكان بعيد فإنه قال ما قال على سبيل التوهم و الحسبان لأمر مستبعد لا يعلم صحته و لا يظنها و ليس وقوع ما وقع من المعاصي و صحة ما توهمه بمخرج لكون قوله الأول قذفا بغيب بعيد و أما رجما بظن غير مصيب(14/174)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 142فيجب أن يحمل قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر و يكون الاستثناء و هو قوله إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ معناه إلا المعصومين من كل معصية و هذا ظن غير مصيب لأنه ما أغوى كل البشر الغية التي هي الكفر و الشرك إلا المعصومين العصمة المطلقة بل أغوى بعضهم كذلك و بعضهم بأن زين له الفسق دون الكفر فيكون ظنه أنه قادر على إغواء البشر كافة بمعنى الضلال بالكفر ظنا غير مصيب. قوله صدقه به أبناء الحمية موضع صدقه جر لأنه صفة ظن و قد روي صدقه أبناء الحمية من غير ذكر الجار و المجرور و من رواه بالجار و المجرور كان معناه صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية فأقام الباء مقام في. قوله حتى إذا انقادت له الجامحة منكم أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة. قوله فنجمت فيه الحال أي ظهرت و قد روي فنجمت الحال من السر الخفي من غير ذكر الجار و المجرور و من رواه بالجار و المجرور فالمعنى فنجمت الحال في هذا الشأن المذكور بينه و بينكم من الخفاء إلى الجلاء. و استفحل سلطانه قوي و اشتد و صار فحلا و استفحل جواب قوله حتى إذا. دلف بجنوده تقدم بهم. و الولجات جمع ولجة بالتحريك و هي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره. و أقحموكم أدخلوكم و الورطة الهلكة. قوله و أوطئوكم إثخان الجراحة أي جعلوكم واطئين لذلك و الإثخان مصدر أثخن في القتل أي أكثر منه و بالغ حتى كثف شأنه و صار كالشي ء الثخين و معنى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 143إيطاء الان ببني آدم ذلك إلقاؤه إياهم فيه و توريطهم و حمله لهم عليه فالإثخان على هذا منصوب لأنه مفعول ثان لا كما زعم الراوندي أنه انتصب بحذف حرف الخفض. قوله ع طعنا في عيونكم انتصب طعنا على المصدر و فعله محذوف أي فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعنا فأما من روى و أوطئوكم لإثخان الجراحة باللام فإنه يجعل طعنا منصوبا على أنه(14/175)