كتمانه عنهم من المصلحة. فإن قلت قوله لا يدرى على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري قلت إنه لا يقتضي ذلك و يكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الأكثرون. فأما القول في سني الآخرة كم هي فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات إحداهن قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. و الأخرى قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. و الثالثة قوله وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. و أولى ما قيل فيها أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا و سمي ذلك يوما و قال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف و ينتقل الأمر إلى دار أخرى و أما الآيتان الأخيرتان فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة و هو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا.(14/166)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 134فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات الأولى منهم مثناة و مائة ألف ألف لفظتان و ستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا و لما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا علم أن أذهان السامعين لا تحتمله فلذلك أبهم القول عليهم و قال لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة. فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التي قد اصطلح عليها الناس قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا في ثلاثمائة و ستين ألف من سني الدنيا و مبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة من سني الدنيا ثلاث لفظات و هذا القول قريب من القول المحكي عن الهند. و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة بأسانيد أوردها عن جماعة من الصحابة أن إبليس كان إليه ملك السماء و ملك الأرض و كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن و إنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان و كان إبليس رئيسهم و مقدمهم و كان أصل خلقهم من نار السموم و كان اسمه الحارث قال و قد روي أن الجن كانت في الأرض و أنهم أفسدوا فيها فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار ثم تكبر في نفسه و رأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره قال و كان شديد الاجتهاد في العبادة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 135و قيل كان اسمه عزازيل و أن الله تعالى جعله حكما و قاضيا بين سكان الأرض قبل خلق آدم فدخله الكبر و العجب لعبادته و اجتهاده و حكمه في سكان الأرض و قضائه بينهم فانطوى على المعصية حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان قلت و لا(14/167)
ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها إلا ما ورد في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله و كل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق و الباب مفتوح فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء و اعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية أ لا تسمع قوله فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إن حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد. فإن قلت أ ليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب معصية و قد حكمتم له بالجنة قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص. فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته و لم يقل بالمعصية المطلقة و المرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس لم يكن من أهل الجنة قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته و لم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر بل لأنه عاص مخالف للأمر أ لا ترى أنه قال سبحانه قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره. فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول(14/168)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 136قلت كلا لأني في الفصل الأول عللت استحقاقه اسم الكفر بأمر زائد على المعصية المطلقة و هو فساد اعتقاده و لم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة و هاهنا عللت خروجه من الجنة بنفس المعصية فلا تناقض. فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا و هل يظن أحد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس كلا هذا ما لا يقوله أحد و إنما الذي يقوله المرجئة إنه يدخل الجنة من قد عصى و خالف الأمر كما خالف الأمر إبليس برحمته و عفوه و كما يشاء لا أنه يدخله الجنة بالمعصية و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي نفي دخول أحد الجنة بالمعصية لأن الباء للسببية قلت الباء هاهنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه و دخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا و دخل متسلحا أي يصحبه الثياب و يصحبه السلاح فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها(14/169)
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجْلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 137غَيْرِ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِ وَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتْ فِيهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ(14/170)