فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها و قد تشح فلا ري و لا هيم
الصرائر جمع صريرة و هي العطش و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها تتضمن تحقير إبليس و أتباعه و تصغيرهم من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته و غلام مقصوع أي قمي ء لا يشب و لا يزداد. و العصبية على قسمين عصبية في الله و هي محمودة و عصبية في الباطل و هي مذمومة و هي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها و كذلك الحمية و
جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة و العصبية في الشيطان تورث النار
و جاء في الخبر العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته(14/161)


و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه إلى آخر قوله من عباده. قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين مع علمه بمضمراتهم و ذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصي و كذلك قوله سبحانه وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 129الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة أي لتصير أنت و غيرك من المكلفين عالمين لمن يطيع و من يعصي كما أنا عالم بذلك فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك. فإن قلت و ما فائدة وقوفهم على ذلك و علمهم به قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي و المطيع و علم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف. فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر و لا تتصور ماهيته فكيف قال لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ قلت قد كان قال لهم إني خالق جسما من صفته كيت و كيت فلما حكاه اقتصر على الاسم و يجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم أن لفظة بشر واقعة عليه من طين. قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي إذا أكملت خلقه. فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له و قد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة و لا يجوز السجود إلا لله و قال آخرون بل كان السجود له تكرمة و محنة و السجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عبادة و لم يكن فيه مفسدة. و قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أحللت فيه الحياة و أجريت الروح إليه في عروقه و أضاف الروح إليه تبجيلا لها و سمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح و النفخ يصدق على الريح فاستعار لفظة النفخ توسعا. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 130و قالت الحكماء هذا عبارة عن(14/162)


النفس الناطقة. فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا قلت قد اختلف في ذلك فمن جعله منهم احتج بالاستثناء و من جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ و جعل الاستثناء منقطعا و بأن له نسلا و ذرية قال تعالى أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي و الملائكة لا نسل لهم و لا ذرية و بأن أصله نار و الملائكة أصلها نور و قد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب. قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع و كان أصله من نار و أصل آدم ع من طين. فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر و لم يكن منه إلا مخالفة الأمر و معلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة و امتنع من السجود تكبرا و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله و ظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا. فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الأصل كافرا لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر و أما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا توقفوا في حال إبليس و جوزوا كلا الأمرين. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 131قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة يقال فيه جبرية و جبروة و جبروت و جبورة كفروجة أي كبر و أنشدوا
فإنك إن عاديتني غضب الحصا عليك و ذو الجبورة المتغطرف
و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا دحره الله دحورا أي أقصاه و طرده(14/163)


وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآْخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ(14/164)


خطفت الشي ء بكسر الطاء أخطفه إذا أخذته بسرعة استلابا و فيه لغة أخرى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 132خطف بالفتح و يخطف بالفتح و يخطف بالكسر و هي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف و قد قرأ بها يونس في قوله تعالى يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. و الرواء بالهمزة و المد المنظر الحسن و العرف الريح الطيبة. و الخيلاء بضم الخاء و كسرها الكبر و كذلك الخال و المخيلة تقول اختال الرجل و خال أيضا أي تكبر. و أحبط عمله أبطل ثوابه و قد حبط العمل حبطا بالتسكين و حبوطا و المتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا و إبطال العقاب تكفيرا. و جهده بفتح الجيم اجتهاده و جده و وصفه بقوله الجهيد أي المستقصى من قولهم مرعى جهيد أي قد جهده المال الراعي و استقصى رعية. و كلامه ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن إبليس من الملائكة لقوله أخرج منها ملكا و الهوادة الموادعة و المصالحة يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين و لو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لفعل و لو فعل لهال الملائكة أمره و خضعوا له فصار الابتلاء و الامتحان و التكليف بالسجود له خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق و هذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن و لكن الله تعالى يبتلي عباده بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم. فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته كالحيوانات العجم و أبانهم عنهم و فضلهم عليهم بالتكليف و الامتحان. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 133قال و نفيا للاستكبار عنهم لأن العبادات خضوع و خشوع و ذلة ففيها نفي الخيلاء و التكبر عن فاعليها فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة و هذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة و لم يفسره أمير المؤمنين ع للناس لما يعلمه في(14/165)

96 / 147
ع
En
A+
A-