من استعان على ذلك الحساب و تلك الحكومة و الخصومة بالتقوى في دار التكليف فإنها نعم المعونة وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. و الجنة ما يستتر به. قوله و مستودعها حافظ يعني الله سبحانه لأنه مستودع الأعمال و يدل عليه قوله تعالى إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا و ليس ما قاله الراوندي من أنه أراد بالمستودع قلب الإنسان بشي ء. قوله لم تبرح عارضة نفسها كلام فصيح لطيف يقول إن التقوى لم تزل عارضة نفسها على من سلف من القرون فقبلها القليل منهم شبهها بالمرأة العارضة نفسها نكاحا على قوم فرغب فيها من رغب و زهد من زهد و على الحقيقة ليست شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 120هي العارضة نفسها و لكن المكلفين ممكنون من فعلها و مرغبون فيها فصارت كالعارضة. و الغابر هاهنا الباقي و هو من الأضداد يستعمل بمعنى الباقي و بمعنى الماضي. قوله ع إذا أعاد الله ما أبدى يعني أنشر الموتى و أخذ ما أعطى و ورث الأرض مالك الملوك فلم يبق في الوجود من له تصرف في شي ء غيره كما قال لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و قيل في الأخبار و
الحديث إن الله تعالى يجمع الذهب و الفضة كل ما كان منه في الدنيا فيجعله أمثال الجبال ثم يقول هذا فتنة بني آدم ثم يسوقه إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين(14/101)
و سأل عما أسدى أي سأل أرباب الثروة عما أسدى إليهم من النعم فيم صرفوها و فيم أنفقوها. قوله ع فما أقل من قبلها يعني ما أقل من قبل التقوى العارضة نفسها على الناس. و إذا في قوله إذا أعاد الله ظرف لحاجتهم إليها لأن المعنى يقتضيه أي لأنهم يحتاجون إليها وقت إعادة الله الخلق و ليس كما ظنه الراوندي أنه ظرف لقوله فما أقل من قبلها لأن المعنى على ما قلناه و لأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا فيما قبلها. قوله فأهطعوا بأسماعكم أي أسرعوا أهطع في عدوه أي أسرع و يروى فانقطعوا بأسماعكم إليها أي فانقطعوا إليها مصغين بأسماعكم. قوله و ألظوا بجدكم أي ألحوا و الإلظاظ الإلحاح في الأمر و منه
قول شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 121ابن مسعود ألظوا في الدعاء بيا ذا الجلال و الإكرام(14/102)
و منه الملاظة في الحرب و يقال رجل ملظ و ملظاظ أي ملحاح و ألظ المطر أي دام. و قوله بجدكم أي باجتهادكم جددت في الأمر جدا بالغت و اجتهدت و يروى و واكظوا بحدكم و المواكظة المداومة على الأمر و قال مجاهد في قوله تعالى إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال أي مواكظا. قوله و أشعروا بها قلوبكم يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه و يجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم و يجوز أن يريد أخرجوا قلوبكم بها من أشعار البدن أي طهروا القلوب بها و صفوها من دنس الذنوب كما يصفى البدن بالفصاد من غلبة الدم الفاسد و يجوز أن يريد الإشعار بمعنى الإعلام من أشعرت زيدا بكذا أي عرفته إياه أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها و شرف محلها. قوله و ارحضوا بها أي اغسلوا و ثوب رحيض و مرحوض أي مغسول. قال و داووا بها الأسقام يعني أسقام الذنوب. و بادروا بها الحمام عجلوا و اسبقوا الموت أن يدرككم و أنتم غير متقين. و اعتبروا بمن أضاع التقوى فهلك شقيا و لا يعتبرن بكم أهل التقوى أي لا تكونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتكم و سعادتهم. ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي و تصونوا أنتم بها عن الدناءة و ما ينافي العدالة. و النزه جمع نزيه و هو المتباعد عما يوجب الذم و الولاه جمع واله و هو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 122ثم شرع في ذكر الدنيا فقال لا تشيموا بارقها الشيم النظر إلى البرق انتظارا للمطر. و لا تسمعوا ناطقها لا تصغوا إليها سامعين و لا تجيبوا مناديها. و الأعلاق جمع علق و هو الشي ء النفيس و برق خالب و خلب لا مطر فيه. و أموالها محروبة أي مسلوبة. قوله ع ألا و هي المتصدية العنون شبهها بالمرأة المومس تتصدى للرجال تريد الفجور و تتصدى لهم تتعرض و العنون المتعرضة أيضا عن لي كذا أي عرض. ثم قال و(14/103)
الجامحة الحرون شبهها بالدابة ذات الجماح و هي التي لا يستطاع ركوبها لأنها تعثر بفارسها و تغلبه و جعلها مع ذلك حرونا و هي التي لا تنقاد. ثم قال و المائنة الخئون مان أي كذب شبهها بامرأة كاذبة خائنة. و الجحود الكنود جحد الشي ء أنكره و كند النعمة كفرها جعلها كامرأة تجحد الصنيعة و لا تعترف بها و تكفر النعمة و يجوز أن يكون الجحود من قولك رجل جحد و جحد أي قليل الخير و عام جحد أي قليل المطر و قد جحد النبت إذا لم يطل. قال و العنود الصدود العنود الناقة تعدل عن مرعى الإبل و ترعى ناحية. و الصدود المعرضة صد عنه أي أعرض شبهها في انحرافها و ميلها عن القصد بتلك. قال و الحيود الميود حادث الناقة عن كذا تحيد فهي حيود إذا مالت عنه. و مادت تميد فهي ميود أي مالت فإن كانت عادتها ذلك سميت الحيود الميود في كل حال. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 123قال حالها انتقال يجوز أن يعني به أن شيمتها و سجيتها الانتقال و التغير و يجوز أن يريد به معنى أدق و هو أن الزمان على ثلاثة أقسام ماض و حاضر و مستقبل فالماضي و المستقبل لا وجود لهما الآن و إنما الموجود أبدا هو الحاضر فلما أراد المبالغة في وصف الدنيا بالتغير و الزوال قال حالها انتقال أي أن الآن الذي يحكم العقلاء عليه بالحضور منها ليس بحاضر على الحقيقة بل هو سيال متغير فلا ثبوت إذا لشي ء منها مطلقا و يروى و حالها افتعال أي كذب و زور و هي رواية شاذة. قال و وطئتها زلزال الوطأة كالضغطة و منه
قوله ص اللهم اشدد وطأتك على مضر(14/104)
و أصلها موضع القدم و الزلزال الشدة العظيمة و الجمع زلازل. و قال الراوندي في شرحه يريد أن سكونها حركة من قولك وطؤ الشي ء أي صار وطيئا ذا حال لينة و موضع وطي ء أي وثير و هذا خطأ لأن المصدر من ذلك وطاءة بالمد و هاهنا وطأة ساكن الطاء فأين أحدهما من الآخر. قال و علوها سفل يجوز ضم أولهما و كسره. قال دار حرب الأحسن في صناعة البديع أن تكون الراء هاهنا ساكنة ليوازي السكون هاء نهب و من فتح الراء أراد السلب حربته أي سلبت ماله. قال أهلها على ساق و سياق يقال قامت الحرب على ساق أي على شدة و منه قوله سبحانه يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ و السياق نزع الروح يقال رأيت فلانا يسوق أي ينزع عند الموت أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا و سياقا. و قال الراوندي في شرحه يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم ولدت فلانة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 124ثلاثة بنين على ساق و ليس ما قاله بشي ء لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى و لا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان. قال ع و لحاق و فراق اللام مفتوحة مصدر لحق به و هذا كقولهم الدنيا مولود يولد و مفقود يفقد. قال ع قد تحيرت مذاهبها أي تحير أهلها في مذاهبهم و ليس يعني بالمذاهب هاهنا الاعتقادات بل المسالك. و أعجزت مهاربها أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين فحذف المفعول. و أسلمتهم المعاقل لم تحصنهم. و لفظتهم بفتح الفاء رمت بهم و قذفتهم. و أعيتهم المحاول أي المطالب. ثم وصف أحوال الدنيا فقال هم فمن ناج معقور أي مجروح كالهارب من الحرب بحشاشة نفسه و قد جرح بدنه. و لحم مجزور أي قتيل قد صار جزرا للسباع. و شلو مذبوح الشلو العضو من أعضاء الحيوان المذبوح أو الميت و
في الحديث ائتوني بشلوها الأيمن(14/105)